ضل الحراز: علي منصور حسب الله
تستعد الإدارة الأمريكية لفرض عقوبات جديدة على السودان، بذريعة استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في معاركه مع مليشيا الدعم السريع خلال عام 2024. وقد جاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية، الصادر بتاريخ 23 مايو، أن هذه العقوبات ستدخل حيز التنفيذ في 6 يونيو 2025، بعد إخطار الكونغرس، وذلك وفقًا لقانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية لعام 1991.
غير أن قراءة متأنية لهذا التحرك الأمريكي تكشف أبعادًا تتجاوز المسوغات الأخلاقية والحقوقية، لتلامس جوهر الاستراتيجية الغربية في تفكيك مراكز القوة الإقليمية. هذا التوجه يجد جذوره في تصورات نظرية ومشاريع تفتيت مزمنة، من أبرزها تلك التي طرحها المفكر البريطاني-الأمريكي برنارد لويس، الذي دعا إلى تقسيم العالم العربي إلى دويلات على أسس إثنية وطائفية.
لم يتأخر الإعلام الأمريكي في تصوير العقوبات كخطوة “قانونية” تهدف إلى حماية المدنيين، في وقت تغض فيه نفس الجهات الطرف عن المجازر الموثقة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، المدعومة إماراتيًا، في دارفور وكردفان والجزيرة والخرطوم. فقد وثّق صحفيون ميدانيون في تقارير نشرتها مؤسسات مرموقة مثل “بي بي سي” و”نيويورك تايمز” شهادات عن اغتصاب جماعي، ومقابر جماعية، وإعدامات على الهوية نفذتها مليشيا الدعم السريع. ومع ذلك، لم تُفرض أي عقوبات تُذكر على قادتها أو مموليهم.
قال الدكتور علي إبراهيم علي مفضل، خبير الاستراتيجيات الإقليمية: “ما يحدث ليس سوى محاولة مكشوفة لتعطيل حسم الجيش للمعركة، وإبقاء السودان في حالة شلل دائم، لأن دولة قوية موحدة في قلب أفريقيا تشكل تهديدًا لتوازنات القوى التي ترسمها واشنطن لصالح تحالفها مع الشرق”.
وما يزيد القلق أن هناك قوى سياسية ومدنية سودانية لعبت – ولا تزال – دورًا في تسويق رواية “الجيش الدموي” في الأروقة الغربية. وقد صرّح عضو في الكونغرس الأمريكي بأن المعلومات المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيميائية “تطابقت مع تقارير قدمها مدنيون سودانيون”، في إشارة إلى ممثل قوى الحرية والتغيير، المدعو (جعفر حسن).
وهنا يبرز السؤال: بأي منطق تقدم قوة سياسية وطنية معلومات قد تُستخدم ذريعة لتجويع شعبها وفرض المزيد من العزلة عليه؟ هل فقدنا البوصلة تمامًا؟
لماذا صرخت أمريكا؟
هذا هو السبب الحقيقي وراء اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية دون دليل واضح:
لقد وضع الجيش السوداني يده على قمة التكنولوجيا العسكرية الأمريكية في منطقة الصالحة. وتخشى الولايات المتحدة من انتقال هذه الأجهزة إلى روسيا أو الصين. تسعى واشنطن لمساومة الجيش السوداني، إما بتسليمها هذه التكنولوجيا، أو مواجهة تدخل مباشر كما حدث في العراق.
وفي كل الأحوال، فإن الجيش السوداني ماضٍ نحو الانتصار.
عن الأجهزة الحديثة ودورها في المعركة
قدّمت أمريكا، عبر قواتها الجوية، الدفعة الأولى من أجهزة تشويش الاتصالات عبر الأقمار الصناعية الأرضية للإمارات خلال الأشهر الماضية، لتصبح أول دولة تحصل على هذه التكنولوجيا. هذه الأجهزة صُمّمت لتعطيل إشارات الطائرات المسيرة المعادية.
ووفق تصريحات لمتحدث باسم قيادة العمليات الجوية، نُشرت في موقع “ديفنس نيوز” الأمريكي، فقد تمت الموافقة على تزويد الإمارات بمحطات تحكم عن بُعد. وأضاف أن أجهزة التشويش ستكون قريبًا في أيدي المستخدمين العسكريين الإماراتيين.
وفي إحاطة إعلامية في 11 ديسمبر/كانون الأول خلال مؤتمر “سبيس باور” في أورلاندو، فلوريدا، قال مسؤول العمليات هاميت: “نريد أن نكون قادرين على تعطيل اتصالات الخصم، وسلاسل عملياته، وروابط استهدافه”. وأضاف: “تهدف هذه الأنظمة إلى حجب الاستقبال من منصات العدو، كأجهزة الاستشعار التي تراقب قواتنا وتبلغ بياناتها إلى الأقمار الصناعية، والتي تتحكم بالأنظمة المهاجمة، أو تتلقى منها”.
بعد دخول قوات الجيش السوداني إلى القصر الجمهوري وطرد مليشيات الإمارات من الخرطوم، شعرت الأخيرة بخيبة أمل شديدة. فقامت بإرسال هذه الأجهزة المتطورة إلى مليشياتها في منطقة الصالحة بأمدرمان، لحمايتها من الانهيار والحفاظ على مركز ثقلها داخل السودان، خاصة بعد الإهانة التي تعرضت لها في الفيديو المصور على كبري جبل أولياء.
إلا أن قواتنا المسلحة تمكنت من دخول منطقة الصالحة، والاستيلاء على هذه التكنولوجيا الحديثة. وقد أثار ذلك قلقًا بالغًا لدى واشنطن، التي تخشى من انتقال هذه التقنية المتقدمة إلى روسيا أو إيران.
توفر هذه الأنظمة تغطية مستمرة على مدار الساعة، من خلال أقمار صناعية أرضية مرتبطة بأخرى عبر بروتوكولات مشفّرة. وقد تم تدريب فنيين من الجيش الكولومبي خصيصًا لهذا المشروع، لكنهم فشلوا – بحمد الله – في تحقيق أهدافهم. وقد عثرت قواتنا المسلحة على أكثر من أربع محطات في منطقة الصالحة، تبلغ تكلفة الواحدة منها ملايين الدولارات.
ستستمر أمريكا في الصراخ، نتيجة غباء حليفتها الإمارات التي أساءت تقدير قدرات الجيش السوداني وكفاءته. لم يكن المشروع الأمريكي-الصهيوإماراتي قائمًا على فهم واقعي لخصوصية السودان، وهو ما تسبب في فشله الذريع.
ولم يكن انهيار مليشيات الإمارات في العاصمة وغيرها من الولايات مفاجئًا، بل نتيجة منطقية لاستراتيجية الجيش في استنزاف قوتهم الصلبة منذ بداية الحرب.
تحولات استراتيجية
في حديث للمفكر الروسي ألكسندر دوغين، أحد أبرز رموز المدرسة الأوراسية، قال: “أي دولة تتعرض لضغط غربي مباشر، يجب أن تعيد رسم تحالفاتها لتشمل موسكو، وبكين، وطهران، وأنقرة، إذا أرادت البقاء”. والسودان اليوم يقف عند هذه النقطة الفاصلة.
ومع تقاطع المصالح الدولية على أرضه، لم يعد أمام السودان من خيار سوى تبني عقيدة توازن استراتيجي، ترفض الاستقطاب الأعمى، وتقوم على تنويع التحالفات شرقًا وجنوبًا، لا شرقًا فقط. فالدعم الأمريكي المشروط لا يعني سوى مزيد من الوصاية، بينما قد يفتح الدعم الروسي أو التركي أو الإيراني أبواب تحالفات قائمة على المصالح، لا التبعية.
ونخلص من ذلك إلى الآتي :
1. العقوبات الأمريكية لا تهدف إلى حماية المدنيين، بل إلى إطالة أمد الصراع، ومنع الحسم العسكري لصالح الجيش.
2. مليشيا الدعم السريع ليست ضحية كما تصوّرها بعض القوى المدنية، بل طرف في صراع دموي موثق بجرائم ضد الإنسانية.
3. الحل يبدأ من الداخل: بإعادة صياغة الخطاب السياسي، وكشف دعاة “الحياد” الذين تواطأوا بالصمت أو بالتقارير المغرضة.
4. التحالف مع الشرق ضرورة استراتيجية، فالعالم لا يرحم الضعفاء ولا ينتظر من لا يملك حلفاء.
وفي الختام
رحم الله من قال: “المتغطي بالأمريكان عريان”. فقد شاهدنا جميعًا كيف تخلّت واشنطن عن حلفائها في كابل، وطرابلس، وبغداد. واليوم، من يتوهّم أن بوسعه الاستقواء بها لإسقاط خصومه، سيكتشف متأخرًا أنه ليس أكثر من ورقة تُستخدم ثم تُرمى.
السودان لا يحتمل المزيد من التبعية، ولا مزايدات “المدنية” التي تغطي جرائم الحرب. المعركة اليوم ليست فقط عسكرية، بل معركة وعي، وقرار، وسيادة. فإما أن نملك قرارنا، أو يُفرض علينا مستقبلنا من خارج حدودنا.