ضل الحراز: علي منصور حسب الله
تشير مجريات الأحداث الميدانية الأخيرة في السودان إلى تغير لافت في موازين القوى، حيث بات واضحًا أن مليشيا الجنجويد تواجه مأزقًا كبيرًا قد يؤدي إلى تفكك بنيتها الهشة وتراجع قدرتها على مواصلة العمليات القتالية. هذا التراجع، الذي جاء نتيجة لتحركات استراتيجية محسوبة من جانب الجيش السوداني، لم يسفر فقط عن خسائر مادية جسيمة في صفوف الجنجويد، بل أفرز كذلك حالة من التذمر والانقسام الداخلي، ما ينذر بانهيار محتمل في بنيتها القتالية والتنظيمية.
وفي خضم هذه المتغيرات، يتعمق التأثير على التحالف القائم بين الجنجويد والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو. يُوصف هذا التحالف بـ”الهجين” لافتقاره إلى مشروع سياسي موحد؛ فبينما تسعى الجنجويد إلى تحقيق مكاسب ميدانية آنية، تطمح الحركة الشعبية لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى، وهو ما أدى إلى تباين في الرؤى وتضارب في المصالح.
لقد انعكست خسائر الجنجويد على مستوى الدعم اللوجستي والعسكري الذي كانت توفره للحركة الشعبية، مما أفضى إلى فتور ميداني ملحوظ وتوقف شبه تام في تنسيق العمليات المشتركة. هذا الخمول، إلى جانب غياب قيادة موحدة، يعزز من احتمالية انهيار التحالف، خاصة في ظل تصاعد التوترات بين الطرفين.
شهدت العاصمة الكينية نيروبي، في فبراير 2025، اجتماعات مكثفة ضمّت قوى سياسية وحركات مسلحة سودانية، على رأسها مليشيا الدعم السريع والحركة الشعبية بقيادة الحلو. وقد تمخضت هذه الاجتماعات عن توقيع “ميثاق سياسي” لتأسيس تحالف جديد تحت اسم “تحالف السودان التأسيسي” (تأسيس)، يهدف إلى تشكيل حكومة موازية تعمل في المناطق التي تسيطر عليها هذه القوى، لتقديم خدمات مدنية وتعزيز الاستقرار المحلي.
ورغم ما يبدو من توحد ظاهري بين هذه المجموعات، إلا أن جذور الانقسام عميقة. فالحلو، الذي يُعرف بدهائه السياسي، لا يتردد في إعادة تقييم تحالفاته وفق تطورات الميدان ومصلحته الذاتية. الخسائر المتزايدة للجنجويد تجعل من تخليه عنهم خيارًا مرجحًا، خصوصًا إن بدأت كفة الميزان تميل ضده.
وما يزيد تعقيد المشهد هو تاريخ الحركة الشعبية نفسها في التعامل مع الاختلافات الداخلية. ففي أعقاب مؤتمر “شقدوم” عام 1994، اعتُقل القيادي تلفون كوكو أبو جلحة لمجرد مطالبته بتحقيق العدالة في توزيع المؤن والتسليح داخل قوات الجيش الشعبي، وتم ترحيله إلى جنوب السودان مكبلًا بالسلاسل، حيث قضى أكثر من ثلاث سنوات في السجن.
اليوم، تُوجَّه اتهامات لعبد العزيز الحلو بالسيطرة على ثروات جبال النوبة من خلال “بنك الجبال للتنمية”، الذي يديره جقود مكوار، رئيس هيئة أركان الحركة، ويُقال إن قادة الحركة يمتلكون أغلب أسهم البنك. هذا البنك يحتكر شراء الذهب من المواطنين بأسعار زهيدة، ويُهرّب عبر طرق ملتوية، تحت ذريعة “دعم النضال”، ما يثير استياء شعبيًا واسعًا.
تتكرر ذات الممارسات القمعية داخل الحركة الشعبية، حيث يتهم الحلو بإقصاء كل من يعترض على سياساته. فقد تم فصل هاشم إيمو من البنك بعد احتجاجه على سياسة الأسعار، كما تم سجن عدد من القادة البارزين، مثل العميد دفع الله، الذي توفي في السجن قهرًا، واللواء كوكو إدريس، الذي تعرّض للإهانة والتعذيب قبل الإفراج عنه.
وفي حين يعاني أبناء جبال النوبة في معسكرات النزوح وتحت ظروف معيشية قاهرة، ينشغل الحلو في مفاوضات حول قضايا يعتبرها كثيرون هامشية، مثل إلغاء البسملة وجعل يوم الأربعاء عطلة رسمية. بينما تُهمَّش المطالب الجوهرية لسكان الإقليم مثل التنمية، الكهرباء، الطرق، وتقاسم السلطة والثروة.
في ظل هذه التحولات، تبدو الفرصة سانحة أمام الجيش السوداني لتعزيز مكاسبه وتوسيع نطاق سيطرته، لا سيما إذا ما استثمر بذكاء في الانقسامات والتصدعات المتزايدة بين خصومه. وبينما يترقب الشارع السوداني مآلات هذا المشهد المعقد، يبقى الأمل معقودًا على أن يُفضي هذا الصراع المتعدد الأوجه إلى سلام دائم يُنهي دوامة الدماء والدمار، ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.