ضل الحراز: علي منصور حسب الله
عندما نشخّص أماكن ومواقع حماة الفساد، حتمًا سنجدها في قمة هرم السلطة، لأن الفاسدين سنّوا قواعد وصبغوا بها أعمالهم الفاسدة ليُضفوا عليها صفة القدسية والحماية، مما يعني أن الطبقة الحاكمة هي الحامية الرسمية للفساد وامتداداته في تفاصيل مؤسسات الدولة. وتضفي هذه الطبقة على سلوكها صفة القداسة باستخدام بعض التفاصيل الهشة كغطاء في مواجهة جهود محاربة الفساد.
ويلفت إلى أن “كبار الفاسدين” شكّلوا مافيات وإمبراطوريات فسادٍ ونفوذٍ، متوهّمين أن هذه الإمبراطوريات تحميهم وتقيهم من المساءلة ومن إجراءات الأجهزة الرقابية. نشهد يوميًا عمليات إفلات من العقاب، قضائيًا ورقابيًا، كما حصل في الفضيحة العلنية لما يُعرف بقضية السوباط، الذي أُفرج عنه ليمرح ويسرح ممثلًا عن هذه الإمبراطوريات في بلاد الله الواسعة، بعد إطلاق سراحه. لكن عليهم أن يعلموا أن الفاسدين لن يبقوا إلى الأبد على قمة الهرم.
كما يعلم الجميع، فإن حيتان الفساد ورعاته هم من يجلسون في قمة الهرم، هرم السلطة ومؤسساتها وقادتها. فكيف يمكن التفكير في الإطاحة العلنية بمن يتفرجون على خراب البلاد بفسادهم؟!
وهؤلاء هم “القوى المتنفذة” في بلد يتعثر اقتصاده تحت أقدام الفساد والمحسوبية. ويطفو على السطح اسم رجل الأعمال هشام محمد الحسن، الشهير بـ”هشام السوباط”، ليس بوصفه نموذجًا للنجاح الاقتصادي، بل كحالة صارخة تثير تساؤلات مؤلمة حول العدالة الانتقائية، وهيبة القانون، ومنظومة الدولة التي تبدو – في كثير من الأحيان – وكأنها تُدار بشيفرة المصالح والولاءات، لا بشفافية القانون.
أُطلقت يد القانون مرارًا ضد السوباط، لكنها كانت في كل مرة تُكبّل سريعًا. بلاغات متعددة، مواد قانونية صريحة، وشبهات تشمل التحاويل البنكية، والصفقات المشبوهة، بل حتى الاتهامات بتوريد وقود مغشوش يحتوي على نسب مرتفعة من الرصاص، بحسب تقرير هيئة المواصفات والمقاييس وضبط الجودة مستندات قدمت للنيابة
وقد نشرت الصحف معلومات خطيرة عن ثروة السوباط، الذي ألقت نيابة الثراء الحرام والمشبوه القبض عليه في بلاغ اشتباه في ثراء غير مشروع، وأودعته حراسة النيابة، وبدأ التحقيق حول مصدر الأموال التي يمتلكها، بعد أن أصبح في فترة قصيرة من الزمن رجل أعمال كبيرًا ومالكًا لشركات بترول وطلمبات.
كما نشرت وسائل إعلام مختلفة إن هشام هو الممول الأول لحكومة السودان بالمواد البترولية، وكان يقوم بعمليات ضخمة في العهد البائد، وتدرّج من موظف في الهيئة القومية للكهرباء إلى أحد أكبر رجال الأعمال في البلاد.
وبحسب ما نشرته الصحف فإن حركة حساب إحدى شركات السوباط في بنك شهير بلغت 2 تريليون جنيه، عندما كان لهذا المبلغ وقع ومكانة إضافة إلى أكثر من 10 حسابات أخرى بالعملة المحلية، والدرهم الإماراتي، والدولار الأمريكي، والريال السعودي.
بحسب الصحف أن ورد اسم السوباط في صفقة بيع بنك الثروة الحيوانية، مقرونًا بأسماء مثل عثمان محمد حسن، مدير عام دواجن “ميكو”، وطارق إبراهيم عبيد الله، نجل والي الجزيرة الأسبق. كما عقد السوباط عددًا من الصفقات مع أسعد كرتي، نسيب بدر الدين محمود، محافظ البنك المركزي ووزير المالية الأسبق، وعديل عوض الجاز، الذي سبق أن تم اعتقاله في قضية سلفية من بنك شهير تجاوزت 2 تريليون جنيه.
كذلك كشف تقرير من وحدة التحاويل المالية في بنك السودان عن وجود شبهة جنائية تتعلق بإجراءات تحويلات مالية قامت بها شركة “أرامكو” المملوكة للسوباط، حيث تدور الشبهة حول استغلال النفوذ لحماية أشخاص من التعرض للعقوبة.
ويُذكر أن بلاغ هشام السوباط هو أول بلاغ يصل إلى المحكمة من “الآلية القانونية لمكافحة تخريب الاقتصاد”، التي تم تشكيلها لمراقبة التلاعب والإضرار بالاقتصاد السوداني. وأفاد مصدر قانوني أن جميع البلاغات تحت المادة (57 أ) – المتعلقة بالإضرار بالاقتصاد الوطني عن طريق التهريب أو نقل البضائع الممنوعة – يتم تحويلها إلى هذه الآلية بنيابة الخرطوم شمال.
ومع كل ذلك، يُقابل المشهد بإفراج مفاجئ، أو بتغيير وكيل النيابة المكلّف بالبلاغ، وهو ما يثير تساؤلات حرجة.
والسؤال الأكثر إلحاحًا اليوم: من يحمي هشام السوباط؟
هل هي شبكة مصالح تربطه بمسؤولين نافذين في الدولة؟ أم أن روابط القرابة والمصاهرة والمصالح التجارية التي تجمعه بكبار رجالات الدولة، أم ورود أسماء لها تأثير في النظام السابق مثل أسعد كرتي وبدر الدين محمود وعوض الجاز، هي من ترفع عنه يد العدالة؟ وهل باتت الأجهزة العدلية تُستبدل كما تُستبدل الأحذية كلما اقترب أحدها من كشف المستور؟
القضية في جوهرها أخطر من هشام السوباط نفسه، فاستمرار هذا النمط من التستر والتهاون في قضايا المال العام يبعث برسالة كارثية للمجتمع: “إن سرقت، فأحكم علاقتك بالسلطة، وإن نهبت، فتأكد من أن ظهرك محميٌّ بمن هم فوق المحاسبة”.
في الحديث النبوي، أن قريشًا همّوا أن يشفعوا لامرأة شريفة سرقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “والله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
لكن في سودان اليوم، يبدو أن “المرأة المخزومية” تُكرَّم لا تُحاسب، فقط إن كانت ذات نسب في شبكات النفوذ، أو تملك مفاتيح خزائن السلطة.
والمفارقة أن هشام السوباط ظل هدفًا للجنة إزالة التمكين، لكنه سرعان ما أضحى محاطًا بدرع من الغموض القانوني. وقبله، تم توقيفه في عهد النظام البائد، لكن تم الإفراج عنه، وتتالت التبديلات في النيابة والتأجيلات غير المبررة.
هل أصبح مصير قضايا المال العام رهينًا بمزاج الساسة؟ أين استقلالية النيابة؟ ولماذا لا تُقدَّم ملفات كهذه للرأي العام بشفافية كاملة؟
إذا كان هشام السوباط بريئًا، فليُحاكم أمام الجميع وتُغلق قضاياه بالقانون لا بالاتصالات والتدخلات. أما إن ثبتت عليه التجاوزات، فإن عدم محاسبته سيكون وصمة في جبين العدالة السودانية.
فالدولة التي يُغلق فيها ملف فساد بمجرد تقديم “طلب شطب” من محامٍ، أو يُنقل فيها وكيل نيابة لأنه “اقترب أكثر من اللازم”، هي دولة لا تُدار بالقانون، بل بالمحاباة والترضيات.
وهنا، لا يسعنا إلا أن نتساءل مرة أخرى:
هل ستنتصر الدولة للقانون، أم لرجال الأعمال الذين صاروا أكبر من الدولة نفسها؟