ضل الحراز: علي منصور حسب الله
مرة أخرى، يجد الإعلام نفسه في مرمى الصراعات السياسية والتجاذبات الجهوية التي طالما أعاقت مؤسسات الدولة عن أداء دورها الطبيعي في البناء والتنوير.
قرار والي شمال دارفور بتجميد قرار تعيين الأستاذ أحمد جمام للإشراف على الإذاعة والتلفزيون، بناءً على مكالمة هاتفية مع الأستاذ إبراهيم البزعي، المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، يطرح أكثر من علامة استفهام حول حدود الصلاحيات ومآلات تدخل القيادات في الشأن الإعلامي.
جمام، المعروف بمواقفه الوطنية وإسهاماته في معركة الكرامة، يُعد من الكفاءات المشهودة في حقل الإعلام، ما يجعل خطوة التجميد مفاجئة وغير مبررة على السطح، إلا إذا كانت هناك أسباب أخرى غير معلنة تتراوح بين الحسابات السياسية والمحاصصة الجهوية، وربما حتى المصالح الشخصية.
لقد ظل جمام قابعا في مدينة الفاشر، في ظل القصف المدفعي ليلًا ونهارًا، لا لشيء سوى توثيق بطولات قواتنا المسلحة والقوات المساندة، دون أن يتلقى دعمًا من أي جهة، ويعمل متطوعًا رغم موقعه في التلفزيون الرسمي. كان يؤدي واجبه المهني في ظروف صعبة ماديًا وأمنيًا، بينما استمر القصف المدفعي بلا هوادة.
ومع ذلك، خاطب الوالي حافظ بخيت في وقت سابق مدير قطاع التلفزيون، الأستاذ وليد مصطفى، بطلب تغيير جمام من العمل بتلفزيون السودان في الفاشر، إلا أن تدخل ضباط في الجيش حال دون تنفيذ مبتغاه.
الوالي حافظ بخيت لديه خلاف أو “حرب باردة” مع محمد آدم كش، رئيس حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي بشمال دارفور، وكان يرى أن أحمد جمام يتيح مساحة إعلامية لمحمد آدم كش للظهور عبر شاشة التلفزيون، مما دفعه للمطالبة بإبعاده.
لكن السؤال الجوهري هنا: ما ذنب الزميل أحمد جمام في هذه الخلافات؟ ولماذا يُطلب تجميد قرار تعيينه، الذي يبدو أنه استُخدم كأداة لمحاربة رئيس حركة سياسية، وليس انطلاقًا من مصلحة الأجهزة الإعلامية؟
ماذا قدّم الوالي حافظ بخيت للإذاعة والتلفزيون؟ وماذا قدّم للإعلام عمومًا؟ بل ماذا قدّم للولاية نفسها حتى يجعل من الإعلاميين هدفًا لتصفية الحسابات؟ هل هي الغيرة من ظهور المهندس كش، الذي استقال من منصبه كمدير لهيئة مياه الريف وتفرغ لحرب الكرامة؟
على الأستاذ إبراهيم البزعي ألا يسمح لأي مسؤول باستخدام المؤسسات الإعلامية لتصفية خلافاته الشخصية أو السياسية، وألا يتراجع عن قراره، فالأستاذ أحمد جمام مكسب حقيقي للهيئة الولائية للإذاعة والتلفزيون بشمال دارفور، وليس مجرد مكسب فردي لجمام.
هذا المشهد تكرر على المستوى الاتحادي، حين أقدم وزير الثقافة والإعلام المكلف خالد الأعيسر على تعيين ملحقين إعلاميين في سفارتي السودان بالقاهرة وأديس أبابا، ليصدر لاحقًا مجلس الوزراء قرارًا بتجميد تلك التعيينات، بدعوى وجود تجاوزات إجرائية وتدخلات من “جهات عليا”
والسؤال هنا: هل أصبحت المؤسسات الإعلامية ساحات نفوذ تتصارع عليها مراكز القوى؟
إذا كانت قرارات التجميد تُبرر أحيانًا بضوابط إجرائية، فإنها في كثير من الأحيان تخفي رغبات في الإقصاء، أو صراعًا على الولاء، أو محاولات للسيطرة على منابر التعبير. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: حين يُختزل الإعلام في توازنات قبلية أو ولاءات سياسية، يفقد المجتمع صوته، وتُفرّغ المؤسسات من مضمونها المهني والوطني.
التجميد في حد ذاته ليس هو المشكلة، بل ما وراءه. فهل القرار محاولة لفرض شخص آخر “أقرب” للوالي؟ أم أن خلفه حسابات جهوية تقليدية لطالما لعبت دورًا سلبيًا في تشكيل الإدارات والمؤسسات، خاصة في دارفور؟
ما تحتاجه مؤسساتنا الإعلامية اليوم ليس المزيد من التجميد، بل التحرير… تحرير من الهيمنة السياسية، من الجهوية، ومن الحسابات الضيقة. إعلام الدولة يجب أن يُدار بالكفاءة والشفافية، لا بالتوصيات الهاتفية، ولا بالإملاءات الفوقية.
لقد آن الأوان لأن نضع حدًا لهذا العبث بمؤسسات الإعلام، فهي ليست أدوات للترضية، ولا ساحات للتعيين بالمجاملة. من يُؤهل لموقع يجب أن يُمنح فرصته كاملة، لا أن يُجمد لأن اسمه لا يرضي طرفًا هنا أو هناك.
الإعلام لا يمكن أن يكون حُرًا ما لم تكن الدولة عادلة.