ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في لحظة سوداء من تاريخ السودان الحديث، تقف مدن كردفان ودارفور تلك الحواضر العريقة التي طالما أنجبت المفكرين والمبدعين والرموز الوطنية تواجه عزلة قاتلة وحصارًا ممنهجًا يفوق كل تصوّر. ومن رحم هذا الألم، ولدت مبادرة “أنين حواضرنا هو صوتنا”، التي أطلقتها رابطة صحافيي وإعلاميي كردفان ودارفور، تحت مظلة الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، كمحاولة شجاعة لكسر جدار الصمت، ولفت أنظار العالم إلى الجرائم التي تُرتكب يوميًا بحق المدنيين العزّل.
فالمجاعة التي تعصف بهذه المدن ليست نتيجة ندرة الموارد أو الظروف الطبيعية، بل هي أداة حرب تُستخدم بدم بارد من قِبل مليشيات الحركة الشعبية جناح الحلو، وقوات الدعم السريع، اللتين حولتا الحصار والتجويع إلى سياسة ممنهجة لإركاع السكان ودفعهم نحو النزوح أو الموت البطيء. لا تتورع هذه الأطراف عن استخدام الغذاء كسلاح، والدواء كوسيلة ضغط، في جريمة حرب موصوفة وفق القانون الدولي الإنساني.
أصبح المدنيون الذين من المفترض أن يكونوا في مأمن ضحايا مزدوجين: من جهة يُستخدمون كدروع بشرية تحتمي خلفها المليشيات، ومن جهة أخرى يُحمَّلون وزر نزاعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. تُمنع عنهم الإمدادات الأساسية، وتُستخدم مدارسهم ومنازلهم كثكنات عسكرية، مما يجعلهم عرضة للقصف. إنه تكتيك لا يتسم فقط بالإجرام، بل يجسّد انحدارًا أخلاقيًا خطيرًا.
مبادرة “أنين حواضرنا هو صوتنا” ليست مجرد صرخة ألم، بل محاولة واعية لاختراق جدار التعتيم، ومخاطبة شعوب العالم بلغاتهم ولهجاتهم، لتوضيح أن ما يجري في كردفان ودارفور ليس مجرد اشتباكات هامشية في بقعة نائية من إفريقيا، بل هو جرائم إبادة جماعية تُرتكب بتواطؤ دولي مباشر أو غير مباشر. فصمت بعض الحكومات الغربية وتجاهلها، بل ودعمها لبعض هذه المليشيات، يجعلها شريكة في الجريمة، إن لم يكن بالسلاح، فبالتواطؤ والصمت.
لسنا سُذّجًا لننتظر من أنظمة تبيع السلاح لمليشيات قاتلة أن تذرف دموع التماسيح على أطفال يتضورون جوعًا في الفاشر وجبل مرة أو لقاوة والدلنج ،وغيرها من مدن لكننا نُراهن على الشعوب: على الصحفيين، والنقابات، والطلبة، والفنانين، والكتّاب، وكل صوت حر قادر على نقل الحقيقة، ومحاسبة حكوماته في المحافل، وفي صناديق الاقتراع. فالحكومات التي تُشارك اليوم في جرائم الإبادة، ستبيع شعوبها غدًا إذا اقتضت مصالحها.
تهدف المبادرة إلى توثيق الانتهاكات بالصوت والصورة، ورفعها إلى الرأي العام العالمي، ليس فقط لفضح الجريمة، بل لبناء أرشيف للعدالة المستقبلية. فكما وثّقت الكاميرا جرائم الحرب في البوسنة ورواندا، سيوثق صحافيو كردفان ودارفور، مع زملائهم من الصحافيين السودانيين، هذا الظلام، ويكشفون من هم الجناة، ومن هم الشركاء، ومن هم الصامتون.
هذه المبادرة شعبية، مدنية، إنسانية، وليست ذات طابع سياسي أو مرتبط بأي كيان حزبي. إنها صرخة من أجل إيصال صوت الشعب السوداني، وكشف حقيقة الانتهاكات التي يتعرض لها، وتعرية مواقف بعض الحكومات المتواطئة، وإدانة دور بعض دول الجوار التي تشارك في العدوان على السودان، أو تغض الطرف عنه.
نتواصل من خلال المبادرة مع الأجسام الصحفية والإعلامية الملتزمة بالعدالة، والمنحازة للإنسانية بحق، للإسهام في نقل أنين هذه المدن إلى كل قلب نابض بالضمير.
جاءت المبادرة لإسناد أهلنا في الدلنج، وكادقلي، وبابنوسة، والفاشر، وغيرها من مدن كردفان ودارفور، ممن يرزحون تحت نير الحصار والتجويع والقصف العشوائي.
في ختام هذا النداء، لا نطلب من العالم أن ينقذنا، بل نطلب منه أن يرى. أن يعرف. أن يسمع أنيننا.
ما يُرتكب في السودان ليس مجرد فصل دموي آخر في كتاب المآسي، بل هو امتحان حقيقي لضمير البشرية.
وفي المرة القادمة التي تتوجه فيها شعوب العالم إلى صناديق الاقتراع لانتخاب حكوماتها، نرجو أن تسأل نفسها:
هل سأنتخب نظامًا يدعم الجوع، ويغض الطرف عن القتل، ويُموّل الدمار؟
أم سأنتخب من يُنقذ ما تبقى من إنسانيتنا؟