تلس بين مطرقة المليشيا وسندان الفوضى: من يُعيد لها وجهها القديم؟

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

 

في زمانٍ انحرفت فيه الولاءات عن جادة الوطن، وصار يُباع فيه كل شيء من القرى إلى القيم في سوق المصالح الضيقة، تسقط تلس، بلدة الذاكرة الطيبة، كل يوم خطوة نحو الهاوية. تتلوى كما جسد جريح وسط نيران لم يخترها، نيران المليشيا والفوضى والانقسام.

 

في هذا المشهد المأزوم، يقف الناظر المعزول محمد الفاتح أحمد السماني، ومعه بعض عمد القبيلة المعزولين كالأستاذ مرجي خليل، في صف مليشيا الدعم السريع، يقدمون الولاء في سوق الدم، بينما تنشط قيادات عسكرية من أبناء تلس داخل المليشيا نفسها، ليسوا جنودًا فحسب، بل صناعًا للفوضى، أمثال العقيد خلا شيخ الدين حقرة، والقائد الزير سالم، والقائد جلال هارون، ومحمد ود الفلاتي، والملازم أول خلا حسني بناني، المعيّن من قبل المليشيا قائدًا لشرطة تلس.

 

كان يُفترض أن يكون هؤلاء دروعًا تحمي البلدة، لا حرابًا تغرس فيها. لكنهم اختاروا أن يتركوا تلس نهبًا للفوضى، وسلعةً في مزاد السلاح والمخدرات. في تلس، التي كانت يومًا تمور بالحياة والطمأنينة، صار الموت ضيفًا مألوفًا، وطلقات النار ضجيجًا يوميًا، والبنقو والترمادول يباعان كأنهما سكر وشاي.

 

وسط هذا الانفلات، بدأت الشروخ تظهر، وبدأت الاشتباكات والمشاجرات، ومن بينها واقعة فارقة: إصابة وكيل ناظر الفلاتة، الأستاذ الطاهر إدريس، أحد آخر الرموز الوطنية النظيفة التي تمسكت برفض التبعية للمليشيات. لم تكن إصابته حدثًا عارضًا، بل اغتيالًا مقصودًا ومنهجًا.

 

ففي اجتماع لقيادات القبيلة بمحلية تلس، اقتحم أحد منتسبي مليشيا الدعم السريع القاعة، ووجه كلمات حادة للطاهر، ثم أطلق عليه رصاصة استقرت في رأسه. أُسعف إلى مدينة نيالا في محاولة لإنقاذه، لكنه فارق الحياة متأثرًا بجراحه. خسرته تلس في لحظة كانت أحوج ما تكون لصوته، وصموده، وموقفه الوطني.

 

الفقيد، الذي عرفه الناس بموقفه الثابت الرافض لانخراط القبيلة في النزاع المسلح، لم يكن مجرد شخصية اجتماعية، بل رمزًا لأمل مفقود في زمن الارتباك. ووفقًا لشهادات أبناء قبيلته، فإن عملية اغتياله كانت تصفية واضحة، حمّلوا فيها الناظر المتمرد محمد الفاتح السماني مسؤولية مباشرة، واتهموه بالتواطؤ مع المليشيا في تنفيذ الجريمة.

 

الحادثة لم تمر مرور الكرام؛ عمّ الحزن والذعر أرجاء تلس، وأُغلق السوق الكبير، واشتد التوتر. كانت تلك الرصاصة القاتلة صفعة في وجه كل من راهن على تحالفات الدم، وصفارة إنذار لكل من توهم أن المليشيا قادرة على حماية الناس أو حفظ السلام.

 

تلس لم تعد كما كانت. لا بهويتها، ولا بأمانها الاجتماعي، ولا بانتمائها. وعود المليشيا حول تحويلها إلى جنة، سرعان ما تحولت إلى جحيم يومي يلتهم أبناءها. وبينما تهاوت قيم الدولة، وغابت هيبة القانون، تجمد الضمير الرسمي وسط وجود لحكومة أمر واقع، لا تملك من أدوات الحكم سوى الاسم، كبيت العنكبوت.

 

لكن السؤال الأهم: أين أبناء تلس الحقيقيون؟ الذين يحملون ذرة وفاء للمكان؟ هل رضوا بالصمت؟ أم تاهوا وسط الانقسامات القبلية التي قسمت الناس إلى “إيكا” و”إيبا”، ثم إلى عشائر وبطون صغيرة مثل “أولاد يحي”، “أم عثمانة”، “جوبا”، “فطومة”، “أسوجي”، “أولاد همام”، “لوي”، و”برورة”؟ وهل نسي الجميع أن الأمن لا يُبنى على العصبية، بل على الموقف؟

 

استشهاد الأستاذ الطاهر إدريس يجب أن يكون جرس إنذار، لا خبرًا عابرًا. لقد كان صوته الوطني هو الصدى الأخير لصوت تلس الحقيقي. اغتياله ليس حادثة معزولة، بل نتيجة طبيعية لتحالفات خائنة وولاءات خاطئة. فماذا بقي بعده؟ ومن سيقف الآن ليقول: كفى؟

 

ما قيمة الرتب والنياشين التي منحتها المليشيا لأبناء تلس إن لم تكن درعًا للضعفاء؟ وما نفع السلاح إن لم يكن سيفًا في وجه الفوضى؟ إن الوطن لا يحتاج إلى مزيد من الصامتين، بل إلى من يملك الشجاعة ليكسر دائرة الخوف.

 

لقد خُدع الناس بسراب الأماني، فلهثوا خلفه، فماذا كانت النتيجة؟ مزيد من الدماء، وفقد الأحبة، وتضاؤل الحلم. سلة الأحلام وقعت، والبيض انكسر. لا حقوق تحققت، لا مكاسب سياسية، لا استقرار اقتصادي، ولا حتى أمان اجتماعي.

 

فيا أبناء تلس، إن الوطن يناديكم… فهل من مجيب؟