كل أجزائه لنا وطن

صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي

 

 

 

“الشدرة كان مالت بتكي في أخيو.. وأخي اليوم دا محمد أحمد من أتبرة” لا تستغرب عزيزي القاريء المشحون بالأجندة السياسية.. فهذا المقتطف من حديث أحد طلاب الشهادة السودانية من زالنجي، يدندن في إحدى فرندات المدارس بمدينة عطبرة معبراً عن إمتنانه لأهالي عطبرة وكل ولاية نهر النيل لاستضافتهم له في دارهم بعد أن خربت داره.

 

رغم التحديات الجسام التي يواجهها البلاد، وكما يقولون أن المعاناة تولد الجواهر، برزت قصة التكافل والتآزر بين مكونات مجتمع نهر النيل حكومة وشعب لتؤكد أن روح الوحدة الوطنية لا تزال متجذرة في أعماق هذا الشعب العظيم.

 

تتجلى مبادرة ولاية نهر النيل في استضافة طلاب ولاية وسط دارفور، الذين نزحوا قسراً من ديارهم بحثاً عن ملاذ آمن لإكمال مسيرتهم التعليمية.. هؤلاء الطلاب، الذين يتهيأون لخوض امتحانات الشهادة السودانية للعام 2025، وجدوا أنفسهم في مواجهة ظروف قاهرة، حيث باتت ولايتهم غير آمنة تحت سيطرة مليشيات الدعم السريع، مما حرمهم من أبسط حقوقهم في التعليم والأمان.

 

لقد قطع هؤلاء الطلاب مسافات طويلة، محفوفين بالمخاطر، في ظل ظروف اقتصادية قاهرة تعيشها أسرهم، وأوضاع أمنية متدهورة، وغياب شبه تام لوسائل النقل الآمنة. إنها رحلة محفوفة بالمشقة، تجسد صمود الإنسان السوداني وإصراره على تجاوز المحن. وفي هذا السياق، جاء موقف ولاية نهر النيل ليقدم نموذجاً فريداً في التضامن الوطني، وليثبت أن الروابط التي تجمع أبناء هذا الوطن أقوى من كل محاولات التفرقة والشقاق.

 

إن ولاية نهر النيل، التي لطالما وصفتها مليشيات الدعم السريع بـ(الجلابية)، متهمة أبنائها الذين يشغلون مناصباً عليا في الدولة، قد تسببوا في ظلم أهالي دارفور وحرمانهم من نصيبهم في الحكم والثروة.. هم ذاتهم اليوم يفتحون ذراعيهم لأبناء دارفور.. ولم تكتفِ حكومة وشعب ولاية نهر النيل باستضافة هؤلاء الطلاب وتوفير السكن والغذاء لهم فحسب، بل تبنت أيضاً توفير كورسات مجانية إعداداً وتهيئة لهم قبل نزولهم لغرف الامتحانات.

 

هذا الموقف النبيل يبعث برسائل ضمنية قوية تنفي كل تهم العنصرية والجهوية، وتؤكد أن ادعاءات رفض إنسان الشمال لباقي أبناء السودان من الأقاليم الأخرى هي مجرد شعارات سياسية لا أساس لها من الصحة في الواقع المعاش بين مكونات المجتمع السوداني.

 

إن هذا التكافل الاجتماعي، وهذا العطاء غير المحدود، يثبت أن العنصرية والجهوية مجرد أوهام يروج لها أعداء الوطن لتمزيق نسيجه الاجتماعي.. فكيف يمكن اتهام أهل الشمال بالعنصرية وهم يستقبلون أبناء دارفور بقلوب مفتوحة، ويقدمون لهم كل الدعم اللازم ليواصلوا تعليمهم؟ هذا الموقف يؤكد أن السودان، بكل أطيافه وأقاليمه، هو وطن واحد، وأن أبناءه جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

 

وهنا لا أمثل ناطقاً رسمياً باسم أسر الطلاب ولا حكومة ولاية وسط دارفور، لكن أجزم أنهم ستقدمون حتماً بخالص الشكر والعرفان لأهالي ولاية نهر النيل، حكومة وشعباً. لأنهم أثبتوا أنهم براء مما يلصق بهم من تهم سياسية باطلة.. وإن تعاونهم وتكافلهم مع إخوانهم من دارفور هو الحصن المنيع الذي سيصد هجمات الأعداء الطامعين والمستهدفين للوطن في وحدته وثرواته.

 

 

إن هذه اللحظات التاريخية، التي تتجلى فيها أسمى معاني الإخاء والتضامن، ستظل محفورة في ذاكرة الأجيال، لتكون دليلاً ساطعاً على أن السودان، بكل أجزائه، هو وطن لنا جميعاً، وأن وحدتنا هي سر قوتنا وصمودنا في وجه التحديات.. عاش السودان حراً موحداً، وعاش شعبه متآزراً متكافلاً.