صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
” تِلِصِّقْ طين في كرعين، ما ببقى نعلين” مثل دارفوري تفسيره أنك وهم إذا تصورت أن إلتصاق الطين في قدميك سوف يقيك من طعن الشوك، أو سيحمي قدميك كما الحذاء.. هو حال مليشيات الدعم السريع التي تصورت إداراتها المدنية في مناطق سيطرتها بأنها الحكومة التي ستملأ الفراغ الدولة!، بل بدأ منتسبوها يصدقون كذبة هامان لفرعون بأنه الرب الذي خلق الكون، ليعود ويكذبه في النهاية بعد أن شاهده يشطح ويقول بأن رأسه قد أتعبه أثناء خلقه!” أستغفرك يا رب”.
صراحة كل ساعة تمر على المواطن المغلوب على أمره بمناطق سيطرة هذه مليشيات هامان هذه، كأنها ساعات يوم الحشر، تمر أمامهم مشاهد من الرعب والترهيب، تتخللها مارسات بألوان مختلفة: تعذيب نفسي وجسدي فظيع، حتى يمنون أنفسهم اليوم الذي يذهب عنهم الأذى ليتنفسوا الصعداء .
في ظل هذه الأجواء العكرة، تبرز قرارات إدارات المليشيا المدنية التي فرضتها بالقوة على سكان ولايات دارفور الواقعة تحت أبطها، وبالتحديد ولاية وسط دارفور “زالنجي”.. تثير تساؤلات جوهرية حول شرعيتها ونطاق سريانها.. هذا الغُوُلْ المسمى (إدارة مدنية) وهي في الحقيقية إدارة عسكرية من إدارات مليشيا الدعم السريع، وتعمل تحت إمرة قائدها.. بدأت تتخذ قرارات مصيرية تؤثر سلباً على حياة المواطنين، في ظل غياب أي سند قانوني حقيقي أو تفويض شعبي.. إن ما يُعرف بـ “حكومة أم كيري” لا تعدو كونها واجهة مدنية لقوة عسكرية تمردت على الدولة، وتفرض إرادتها بقوة السلاح، لا بسلطة القانون أو إرادة الشعب.
ولاية وسط دارفور التي شاءت الأقدار أن يكون سكانها ضمن ضحايا هذه الممارسات، صارت نموذجاً لتخبط مليشيات الدعم السريع ممثلة في (غولها) المدني الذي يصر على فرض سلطته (الغابية) تحت تهديد السلاح على المدنيين الأبرياء، فبينما أصدر والي الولاية الشرعي، الجنرال مصطفى نصر الدين تمبور، قراراً بإعفاء قيادات الإدارات الأهلية في المستوى الثاني (العمد) لتورطهم في محاربة الدولة وانضمامهم لمليشيات الدعم السريع، مستنداً في قراره على قانون الطوارئ والسلامة العامة لسنة 1997، والمادة (9/1/أ) من قانون تنظيم الحكم اللامركزي لسنة 2024م، جاء رد رئيس الإدارة المدنية التابعة للدعم السريع، عبد الكريم يوسف عثمان، بقرار مضاد قضى بإعفاء قادة الإدارة الأهلية بالولاية، وعلى رأسهم الدمنقاوي الدكتور التجاني سيسي.
هذا القرار الأخير، الذي يفتقر لأي أساس قانوني، يبدو وكأنه رد انتقامي مباشر على قرار الوالي تمبور، وتأكيداً على أن الإدارة المدنية للدعم السريع تعمل وفق “قانون الغاب” لسنة 2023م، الذي تستند إليه قوات الدعم السريع في تعاملاتها، والذي لا يراعي أي قوانين أو أعراف دولية أو وطنية.
إن هذه المفارقة تكشف بوضوح عن طبيعة هذه الإدارة التي لا تهدف إلى خدمة المواطن، بل إلى ترسيخ سيطرة المليشيات وتصفية الحسابات مع كل من يقف في وجهها.. جرائم المليشيات ومفارقات القرارإن قرارات الإدارة المدنية التابعة للدعم السريع، وعلى رأسها قرار إعفاء قادة الإدارة الأهلية، لا يمكن فصلها عن سجل المليشيات الحافل بالجرائم والانتهاكات ضد المدنيين في الولايات التي تسيطر عليها.
فمنذ بداية تمردها، ارتكبت قوات الدعم السريع فظائع لا تُحصى، شملت القتل العمد، والنهب المنظم للممتلكات، واغتصاب النساء، والتهجير القسري، وتدمير البنى التحتية.. هذه الجرائم، التي وثقتها منظمات حقوقية دولية وتقارير أممية، تؤكد أن هذه المليشيات لا تلتزم بأي مبادئ إنسانية أو أخلاقية.. وإن قرار رئيس الإدارة المدنية، عبد الكريم يوسف عثمان، بإعفاء قادة الإدارة الأهلية، يأتي ليؤكد الدوافع الانتقامية لهذا القرار، حيث يشغل معظم الذين شملهم قرار الوالي تمبور مواقع قيادية في الإدارات العسكرية والمدنية للمليشيات، ويتلقون مرتباتهم من خزينة الدولة التي تمردوا عليها.. وهذا القرار لا يخدم مصلحة المواطن، بل يلبي شهوات قيادات الدعم السريع، ويؤكد أن هذه الإدارة ليست سوى أداة لتصفية الحسابات وتثبيت نفوذ المليشيات على حساب أمن واستقرار المواطنين.
يتضح الفارق الشاسع بين الحكومة الشرعية التي تدير شؤون الشعب وتقدم لهم الخدمات الأساسية وتوفر لهم الأمن والاستقرار، وبين إدارة المليشيات التي تسلب الأمن والاستقرار من الشعب، وتسرق موارده، بل تنهب بيوت وأموال وممتلكات المدنيين.. فالحكومة الحقيقية تسعى لبناء الدولة وتوفير الحياة الكريمة لمواطنيها، بينما إدارة المليشيات، كـ “حكومة أم كيري”، لا تهدف إلا إلى فرض سيطرتها بالقوة، وتدمير النسيج الاجتماعي، وإغراق البلاد في الفوضى.. والمقارنة هنا شبه مستحيلة، ليس لتشابههما، بل لتباينهما الجذري في الأهداف والوسائل والنتائج.. فالأولى تمثل الأمل في مستقبل أفضل، بينما الثانية تجسد كابوساً من العنف والدمار، لا يمكن أن يسري حكمها على شعب يتوق للسلام والعدل.