علي منصور حسب يكتب في “ضل الحراز” …  مع حديث مناوي (2)

ضل الحراز: مع حديث مناوي (2)

 

علي منصور حسب الله يكتب

 

قال مني أركو مناوي خلال إفطار الصحفيين والإعلاميين الذي نظمته حكومة إقليم دارفور، إن صراع الأيديولوجيات هو السبب الأساسي في وصول السودان إلى هذه المرحلة الحرجة، مشيرًا إلى ضرورة عدم التمييز بين الشيوعيين والإسلاميين، فالمهم هو الأفكار التي يقدمونها، لا الانتماءات الأيديولوجية. كما أكد أن الوقت غير مناسب لتقييم القوى السياسية أو الخطاب السياسي، إذ إن الأولوية الآن هي الخروج من الأزمة الراهنة.

 

فشل الأيديولوجيات في مهدها

 

صدق مناوي ورب الكعبة! فالمشكلة الحقيقية تكمن في أن جميع الأيديولوجيات مستوردة، ولم تصمد حتى في مواطن نشأتها. فكما ذكر مناوي، فإن الفكر الاشتراكي انهار في الاتحاد السوفيتي، الذي تفكك إلى دويلات، بينما فشلت الحركة الإسلامية في السودان وسقطت في مصر بثورة شعبية ضدها، أما حزب البعث العربي الاشتراكي، فقد تلاشى تقريبًا، رغم أنه نشأ في العراق وسوريا، حيث انهارت تجربته في كلا البلدين.

 

أما التيار الناصري، فهو نموذج آخر على الأفكار التي فقدت تأثيرها حتى في بلد نشأتها، مصر. فهل هناك وجود حقيقي للناصريين اليوم؟ محمد حسنين هيكل، الصحفي الشهير والمقرب من عبد الناصر، كان أول من أطلق مصطلح “الناصرية” في 14 يناير 1972 من خلال مقال نشره في جريدة الأهرام. وبعده جاء كمال رفعت، الذي أصدر عام 1976 كتيبًا بعنوان “ناصريون”، حدد فيه مبادئ الناصرية وأهدافها.

 

وفي 1992، تمت الموافقة رسميًا على إعلان الحزب الديمقراطي الناصري في مصر، بقرار قضائي، وكان يرأسه المحامي ضياء الدين داود، لكنه لم يستطع تحقيق تأثير سياسي حقيقي، مما يعكس مدى انحسار المد الناصري حتى في بلد عبد الناصر نفسه.

 

حركة القوميين العرب: تجربة أخرى انتهت إلى الفشل

نشأت حركة القوميين العرب بعد نكبة فلسطين عام 1948، وكان لبنان هو حاضنتها الأساسية، حيث نشأت بين طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت، وامتدت إلى الأردن وفلسطين والكويت والعراق. ومن أبرز مؤسسيها:

جورج حبش

وديع حداد

أحمد الخطيب

صالح شبل

حامد الجبوري

هاني الهندي

حكم دروزة

عدنان فراج

ثابت المهايني

مصطفى بيضون

محسن إبراهيم

عقدت الحركة أول مؤتمر لها عام 1956 في عمّان، تحت مسمى “الشباب القومي العربي”، وتم تشكيل قيادة تضم 14 عضوًا تمثل المكونات الاجتماعية والثقافية للدول العربية. لكن أين هي هذه الحركة اليوم؟ مثل غيرها، لم تصمد أمام التغيرات السياسية الكبرى، بل تفرقت قياداتها، وانتهى تأثيرها تدريجيًا.

 

حزبا الأمة والاتحادي الديمقراطي: صنيعة المستعمر

 

أما حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، فهما من بقايا الإرث الاستعماري، وتاريخهما معروف في الارتباط بالمستعمر منذ تأسيسهما. وهنا يبرز السؤال: في ماذا يصطرع هؤلاء اليوم؟ وما الذي يمكن أن يقدموه بأفكار فشلت حتى في مهدها ولم تصمد أمام رياح التغيير؟

 

مناوي لم يقل كل شيء!

 

ما لم يقله مناوي هو أن جميع هذه القوى السياسية كانت شريكة في أزمات السودان، وهي المسؤولة عن كل انقلاب عسكري حدث في البلاد. فلا يوجد انقلاب قاده عسكري بمفرده، بل كان هناك حزب سياسي داعم خلفه.

 

فلماذا يتم انتقاد العسكريين فقط، بينما لا تتم محاسبة الأحزاب السياسية التي تحرّض على الانقلابات؟ إذا كان هناك حزب بريء من هذه التهم، فليرفع يده!

 

التدخلات الخارجية: الأحزاب هي البوابة

 

كل التدخلات الخارجية التي حدثت في السودان جاءت عبر الأحزاب السياسية، أو من خلال شخصيات تحمل أفكارًا أيديولوجية تدين بالولاء للخارج. وهذه هي مشكلة السودان الحقيقية:

أحزاب سياسية فاشلة لا تريد سوى الوصول إلى الحكم.

ممارسات انتقامية وإقصائية بين القوى السياسية.

غياب المشروع الوطني الجامع، واستبداله بتحالفات وتحزبات ضيقة.

فشل الحكومات المدنية المتتالية

لم يكن فشل الحكومات العسكرية وحده هو المشكلة، بل حتى الحكومات المدنية التي جاءت بعد الاستقلال فشلت جميعها في إدارة البلاد:

1. حكومة ما بعد الاستقلال (1956) كانت مدنية كاملة الدسم، لكنها فشلت.

2. حكومة ثورة أكتوبر 1964، التي جاءت بعد إسقاط حكم عبود، لم تكن أفضل من سابقتها.

3. حكومة ثورة أبريل 1985، التي أطاحت بنميري، لم تختلف عن غيرها في الفشل.

4. حكومة ثورة ديسمبر 2018 تفوقت على جميع الحكومات السابقة في الفشل، ومارست الانتقام السياسي عبر ناشطين بلا خبرة سياسية.

 

وكانت النتيجة؟ حرب دمرت الأخضر واليابس!

الخلاصة: لا خلاص إلا بإصلاح جذري

 

ما لم يتم تفكيك هيمنة الأحزاب الفاشلة، ووضع رؤية وطنية واضحة بعيدًا عن الأيديولوجيات المستوردة، فلن يخرج السودان من أزماته المتلاحقة. فلا الشيوعية ولا الإسلام السياسي ولا البعثية ولا الناصرية استطاعت تحقيق نجاح في مواطن نشأتها، فكيف لها أن تنجح في السودان؟

 

الأمر يتطلب تحررًا من الوصاية الحزبية، وتركيزًا على بناء الدولة وفق رؤية وطنية خالصة، لا تحكمها الأيديولوجيات الفاشلة، ولا المصالح الحزبية الضيقة.

 

نواصل مع حديث مناوي…