في عمق التاريخ السوداني، تتوارى مناطق ذات أهمية كبرى خلف ستار الإهمال والتهميش، رغم ما تحمله من إرث حضاري وثقافي ضخم، ومن بين هذه المناطق “كفيا قنجي” الواقعة جنوب غربي السودان، والتي كانت في يومٍ ما مركزاً سياسياً وثقافياً واقتصادياً نابضاً بالحياة. في هذا الحوار الحصري، نفتح نافذة على تاريخ كفيا قنجي، ونتعرّف على أسرارها المنسية، ومعالمها البارزة، ونفكك أسباب ما عُرف بـ”خراب كفيا قنجي”، من خلال حديث مباشر وصريح مع العمدة جمعة حسين عبدالله مراد – عمدة قبيلة البنقا بولاية الخرطوم، والذي يعتبر أحد أعمدة المعرفة بتاريخ المنطقة.
حوار يميط اللثام عن ماضٍ ثريّ ومستقبل ينتظر الإنصاف. فإلى مضابط الحوار
حاورته ببورتسودان: عادلة عادل
مرحباً بك عمدة جمعة، ونتشرف بوجودك معنا اليوم للحديث عن منطقة كفيا قنجي التي نراها غائبة عن كثير من السرديات التاريخية رغم أهميتها الكبيرة؟
مرحب بيكم، وأنا سعيد جداً بالمبادرة دي، لأنو كتير من المناطق التاريخية عندها دور مهم لكن ما لقت حظها من التوثيق والتسليط الإعلامي، وكفيا قنجي مثال حي لذلك.
كفيا قنجي كلمة بلغة البنقا، وتعني “كاب كينجي”، “كاب” يعني الرهد و”كينجي” تعني السمك
ماذا تعني “كفيا قنجي”؟
كفيا قنجي كلمة بلغة البنقا، وتعني “كاب كينجي”، “كاب” يعني الرهد و”كينجي” تعني السمك. المنطقة مشهورة بنهري “برادا” و”أم بلجا” وهما مصدر وفير للسمك. وهناك روايات أخرى حول معنى الاسم نسبة لإنتشار الرهود بهذه المنطقة فهنالك مجموعة من الكابات وهي:-
1/كاب دوفو (أي رهد الكتمور)
2/كاب ليل (أي رهد عميق لابد من العوم فيه)
3/كاب اليل (أي رهد طيور الرهو)
4/كاب اندرقو(أي رهد سمك البلطي)
5/كاب قسباي وهو مسمى بإسم شخص من المنطقة.
لكن التسمية البنقاوية هي الأكثر شهرة.
كفيا قنجي كمنطقة تاريخية عريقة المهتمين بالتاريخ لم يعطوها حقها رغم البحث عنها كثيرآ فهي منشأة منذ عهود سحيقة جدآ.
فهي نديد للسلطنات التي قامت في ذلك الوقت فهي شبيهة بممالك (وداي – باقرما – المسبعات – الرنقا – البرنو – تمبسكو) وغيرها من الممالك لكن لم تجد حظها في تسليط الضوء عليها.
كفيا قنجي من أقدم المناطق، وهي ليست مجرد قرية أو موقع، بل كانت منطقة مستقلة في حد زاتها
متى تأسست المنطقة؟ وهل عندها تاريخ سياسي معروف؟
كفيا قنجي من أقدم المناطق، وهي ليست مجرد قرية أو موقع، بل كانت منطقة مستقلة في حد زاتها ، فتعاهدت مع سلطنة الفور وقتها في عهد السلطان محمد الفضل في العام 1800 فأصبحت تدفع ضريبة بشكل منتظم للفاشر عاصمة سلطنة دارفور مقابل مقعد ثابت في مجلس السلطنة، وأنهم أصحاب مشورة حقيقية في شؤون السلطنة مما يدل على مكانتها وإحترامها .
قبيلة البنقا هم من أسسو هذه المنطقة و الاسم بنقاوي لكن السكان خليط من قبائل كثيرة
إدارياً كفيا قنجي تتبع لأي ولاية حالياً؟
تتبع منطقة كفيا قنجي لوحدة “سنقو” الإدارية التابعة لمحلية الردوم بولاية جنوب دارفور وهي أخر منطقة من الناحية الجنوبية لمحلية الردوم والمتاخمة لجنوب السودان حيث تضم محلية الردوم أربع وحدات إدارية وهي:- (الردوم، سنقو، القوزو ووحدة ود هجام) وكفيا قنجي تتبع لوحدة سنقو، ومعاها مناطق أخرى.
1/ وحدة الردوم*:وهي رئاسة المحلية وتضم مناطق وقرى (الردوم – تتربي – سنجة – أم مشيطير – مريراية – مراية – محارة – الفيفي – النبيق – قوقل – – الشرقية).
2/وحدة سنقو
وتضم (سنقو – كفيا قنجي – كفن دبي – أم حجارة – أبودولو – حلة عبدالبنات – إليبو – قوز شلال – أم جدول – سبولة – دفاق – ديم بشارة – حفرة النحاس – جميزة).
3/وحدة القوز:-
وتضم (غبيبيش – قليزان – بقاقة – جويغينة – عردة) وغيرها.
4/وحدة ود هجام:-
وتضم (ود هجام – القربة ) وغيرها من المناطق والقرى المجاورة.
وتعتبر الردوم أكبر محليات جنوب دارفور مساحة حيث يحد المنطقة جنوبآ بحر تمباك كحد فاصل بين الدولتين وغربآ دولة أفريقيا الوسطى وشمالآ محليات (رهيد البردي – كتيلة – دمسو) وشرقآ محلية برام.
وهي تعتبر منطقة سافنا غنية جدآ وشبه استوائية حيث تتراوح نسبة هطول الأمطار فيها ما بين (6 – 8)شهور في السنة كما إشتهرت بالتعدين منذ قديم الزمان ولكن زادت شهرته في العام 2015الى يومنا هذا.
من هم السكان الأصليين في كفيا قنجي؟ هل هم فقط من قبيلةالبنقا أم هنالك قبائل أخرى تسكن في تلك المنطقة؟
قبيلة البنقا هم من أسسو هذه المنطقة و الاسم بنقاوي لكن السكان خليط من قبائل كثيرة مثل :- الكريش، السارا، الدنقو، أبودرق، الفور المساليت، الكارا ، (البرنو ، الباقرما، الرنقا، الفلاتة ما يعرفوا بقبائل الغرب )
كانت المنطقة محطة عبور لحجاج بيت الله الحرام فهي مشهورة بنار القرآن، والتقابة ، والدواية، وبتعليم الدين الإسلامي، وبمواردها الإقتصادية، والبشرية والغابية الغنية مثل (عسل النحل،العاج، سن الفيل، ريش النعام) والتجارة والرعي والزراعة فإشتهرت المنطقة وأصبحت قبلة للتسوق و السواح وغيره وعلاوة على ذلك أنها حظيرة الردوم القومية الزاخرة بالحياة البرية لكن مع عدم وجود العناية أو الإهتمام من الجهات المسئوولة مما جعل تلك الحيوانات البرية تفر لدول الجوار وبالإضافة إلى نشاط التعدين الأهلي في المنطقة .
وهذا التطور والإذدهار أزعج حكومة المستعمر وقتها خوفا من إستمرارية هذا التطور لأنه سيكون عكس سياستهم وايدليوجيتهم الإستعمارية كهدف استراتيجي والقائمة على رفض نشر الثقافة العربية والإسلامية والحد من تمدد تلك الثقافات لجنوب السودان والدول الإفريقية المجاورة لتلك المنطقة فجاءو بشائعة أن المنطقة موبوءة بأمراض معدية بسبب وجود الذباب الناقل لهذه الأمراض ولكن هذا ليس سوى سياسة المستعمر التى تهدف إلى تهجير السكان وهذا لعدم تقبلهم لنشر الثقافة العربية والإسلامية وعملوا على الإخلاء والتهجير القسري لسكان المنطقة رغم أنفهم وذلك في العام 1930م حيث جعلوها منطقة خالية من السكان( NO MAN LAND) وهو ما يعرف بين الأهالي بخراب كفيا قنجي.
هل كانت المنطقة مقسمة إلى الممالك وسلطنات في ذلك الزمان؟
نعم. في الزمن البعيد قبل الخراب كان البنقا وفي حاضرتهم كفيا قنجي بعد نزولهم من جبل مرة إلى الجنوب الغربي سكنوا في الجبال الجنوبية الغربية من كفيا قنجي في شكل (خشم بيوت)في تلك الجبال (جبل تنقا ، جبل قرانجا ، جبل توموقو ، جبل راجي ، جبل ميني ، جبل شالا ، جبل بيع شورى ، جبل جمبانة ) وغيرها.
ولعوامل أمنية وسياسية تجمعت تلك خشوم البيوت لتعمير منطقة كفيا قنجي في عهد السلطان أدم عبدالله (دس) وهو مؤسس المنطقة أنذاك وخلفه السلطان ضحية عبدالكريم والذي تم تعينه من قبل السلطات الاستعمارية سلطانآ وقاضيآ درجة ثالثة على عموم المنطقة وهذا القرار موجود في مكاتبات الإنجليز عن المنطقة بما يعرف بملف(THE SUDAN GoVERNMENT) ( Binga And Kara
أما الكريش من الناحية الجنوبية وحاضرتهم بورو المدينة ما تعرف قديمآ بسعيد بنداس.
الدنقو وهم في جبل دنقو شمال مدينة الردوم الحالية على بعد 14كيلو متر بكل إداراتهم وسلطناتهم لكن هنالك وجود بعض القادة منهم بعد نهاية سلطنة علي دينار وإستوطنو شرق كفيا قنجي في منطقة سميت بالضيوفات الثلاثة، فهم قادة من القبائل الذين شاركوا في حرب المهدية وعلي دينار وبنهاية السلطان علي دينار عام 1916م عادوا إلى أهاليهم ومنهم السلطان عبد المكرم سلطان البنقا وقائد في سلطنة علي دينار والذي يشغل منصب مسؤول الأمن القومي بالسلطنة وهذا بمثابة مدير عام جهاز الأمن والمخابرات في الوقت الحالي. وسميت منطقته بضيوفو عبدالمكرم
أما السلطان سعد علي سلطان قبيلة السارا والذي حضر إلى المنطقة لأول مرة بصحبة زملائه السلاطين عبدالمكرم ودردق وسكن في منطقة عرفت بضيوفو سعد علي.
أما دردق وهو سلطان قبيلة الدنقو وزعيمهم وسكن أيضا بالمنطقة فعرفت بضيوفو دردق.
ما هي أبرز معالم كفيا قنجي؟
لمنطقة كفيا قنجي معالم تاريخية كثيرة ولكن من أبرز معالمها :-
1/وجود مشنقة لمعاقبة المجرمين في عهد الإستعمار والتي تم نقلها إلى الفاشر بنهاية الاستعمار .
2/وجود أثار بيت المأمور(حاكم الإستعمار بكفيا قنجي ).
3/ضريحة السلطان أدم عبدالله (دس) بضم الدال والسين فهو مؤسسة منطقة كفيا قنجي منذ تجمع الناس من الجبال.
4/خور فونقو جنوب مؤسسات الحكومة وبه أثار كبرى قديمة.
5/منطقة شاويش مهدي وعيديرو فهي رئاسة قوات الحياة البرية.
6/نهر عادا أو برادا الذي ينحدر من مرتفعات الجبال الغربية من كفيا قنجي على بعد 5كيلو متر شمال كفيا قنجي والذي يلتقي مع نهر أمبلجا عند مدينة الردوم مما يعرف (ببحر العرب).
سمعنا إنو الإنجليز حاولوا يدخلوا المنطقة؟ ممكن توضح لنا ماذا حدث بالضبط؟
صحيح. في عام 1903 الإنجليز دخل من جهة جنوب السودان ورفعوا علمهم في كفيا قنجي وحفرة النحاس وكانت الإدارات الأهلية في هذه المناطق من قبائل ( البنقا، الكريش، الكارا، الدنقو……. الخ) فرفضوا هذا الوجود والتدخل ورفعوا شكوى للسلطان علي دينار، الذي أرسل خطابين حاسمين في شهري(يونيو، وأغسطس) من العام 1903م إستنكارآ وإنذارآ لهذا التوغل الإنجليزي ، وأكد أن المنطقة ضمن دائرة نفوذه.
وفي الوقت نفسه جاء الرد بالإعتزار شديد اللهجة من الإنجليز للسلطان علي دينار بأن لا تتكرر مثل هذه التدخلات في دائرة ليست من إختصاصهم مستقبلآ.
ونظرآ لهذه الوقائع تؤكد تبعية هذه المناطق لدارفور بعكس خطاب الرئيس عبود الذي جاء في العام 1960م
هنالك عدة روايات متداولة عن خراب كفيا قنجي ولكن من ارجح الروايات و أكبر سبب لخرابها هو سياسة المستعمر
من الواضح إن المنطقة تعرضت لتهميش فما هو السبب الحقيقي وراء خراب كفيا قنجي؟
هنالك عدة روايات متداولة عن خراب كفيا قنجي ولكن من ارجح الروايات و أكبر سبب لخرابها هو سياسة المستعمر على محاربة الثقافة العربية والإسلامية من كل عموم السودان . حيث حاولوا يفصلوا كفيا قنجي تحديدآ عن الشمال من هذه الثقافة التي تتعارض مع أهداف المستعمر وذلك لإنتشر رجال الدين والدعاة والخلاوى و شيوخ القبائل والتجار فيها.
وهذه من أقوى أسباب خراب كفيا قنجي في العام 1930م.
ولتنفيذ سياستهم المستبدة حاولوا تفريغ المنطقة و أخذها بالقوة ولكن الأهالي رفضوا تلك السياسة فأضرموا النيران على منازل المواطنين فحدث الخراب والقتل مما أجبر السكان على الفرار رغم المقاومة التي إستمرت ل(6) أعوام من العام(1930 – 1936) فتم تصنيفهم عرقيآ وقبليآ فأي قبيلة محتفظة بلغتها الأم تم ترحيلها إلى جنوب السودان وذلك لقابلية هذه القبائل على الإندماج مع ثقافة جنوب السودان فتم نقلهم إلى في مناطق منمبا وديم جلاب ونرجى الله(أي رفض الذهاب أو التوكل على الله) وغيرها من المناطق بجنوب السودان.
وأما الذين ذابت لغتهم وأصبحو يتحدثون العربية تم ترحيلهم إلى الشمال بحسبان أنهم يمكن إنصهارهم مع الشمال وعرفوا بأولادك العرب
وعندما علم السكرتير العام للسودان بهذه الفظائع بالمنطقة أصدر قرارآ أو أمرآ بإبقاء قبائل كفيا قنجي شمال المنطقة (أي داخل مناطقهم ) وهي مناطق الردوم والقرى المجاورة لها مثل (مرايا ، الفيفي ، قوز شلال ، سنقو ، حفرة النحاس ، ديم بشارة ، كفن دبي ، تتربي ).
كلامك واضح يا عمدة، وفعلاً هنالك مناطق مظلومة في كتير من الأحيان، وكفيا قنجي نموذج حي على هذا.
نعم، الكلام عن كفيا قنجي يحتاج الي مجلدات وهنالك الكثير من المسكوت عنه، ح نتكلم فيه في الوقت المناسب، لأن الأن هنالك دوران لعقارب الساعة لايتحمل إستمرارية الأخطاء القديمة فالإشارة واضحة لكل من يعرف منطقة كفيا قنجي وسياستها و الرسالة الآن هي إن أبناء المنطقة هم أحق بالكلام عنها ومن هنا نناشد كل المهتمين والباحثين والإعلاميين وطلاب البحوث التاريخية بأن يصوبوا اقلامهم وعلمهم صوب تلك المنطقة.
شكراً ليك عمدة جمعة على المعلومات القيمة، ونتمنى يكون هذا الحوار بداية لتوثيق أكبر لكفيا قنجي وتاريخها المجيد.
الشكر اليكم أنتم صحف الشارع السوداني ودارفور الان وانتم دائماً حاضرون في الموعد، وبإذن الله فهذا لن يكون آخر لقاء بل هي البداية لمعرفة المذيد من المعلومات الحبيثة التي لم تجد مواعين تفريغها عن منطقة كفيا قنجي.