صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
تُعرَّف مهنة الصحافة، بأنها رحلة دؤوبة نحو الحقيقة، غالبًا ما تكون محفوفة بالمخاطر والتحديات، وهو ما أكسبها لقب “مهنة المتاعب”. تكمن قدسية هذه المهنة في تقديم “الخبر اليقين”، الذي يُسهم في تشكيل رأي عام مستنير وراسخ، حول القضايا الجوهرية، تمس حياة الجمهور، وتخدم المصلحة العليا للوطن.
لعل أصعب ما يواجه الصحفي هو القدرة على تمحيص سيل المعلومات المتدفقة من مصادر شتى، لاستخلاص جوهر الحقيقة الصافي.
في ولاية وسط دارفور، يتجسد هذا التحدي بوضوح مؤلم… تخضع الولاية حاليًا لسيطرة مليشيات، تدّعي محاربة الدولة باسم “الديمقراطية والحرية والسلام والعدالة”… غير أن الواقع المرير في مناطق نفوذها، كما تشير التقارير الميدانية، يكشف عن وجه آخر، حيث يبدو أن قتالها المستميت يهدف إلى ترسيخ “الظلم والقمع والإرهاب وسلب الكرامة”… لقد عمدت هذه المليشيات إلى نهب وتخريب ممنهج للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والأسواق، متذرعة بأنها من “مخلفات دولة 56″، في مفارقة صارخة، حيث يتولى داعمو تلك الدولة المزعومة، توجيه ذات المليشيا سياسيًا وإعلاميًا، بل وقيادتها ميدانيًا… لم تبقَ في الولاية بنية تحتية حكومية يمكن من خلالها إدارة شؤون المواطنين بعد التحرير، كما لم يسلم مقر للشرطة أو محكمة للعدل، مما يعيق استعادة النظام والقانون… ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد هجّرت المليشيات سكان المدن قسرًا، ونهبت ممتلكاتهم، ودمرت منازلهم في محاولة لتغيير التركيبة السكانية للمنطقة، لم تسلم حتى مخيمات النازحين من هذا المخطط… لقد أدت هذه الممارسات، إلى جانب الصراع الدائر، إلى تفاقم أزمة إنسانية كارثية، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمات دولية إلى أن السودان يشهد واحدة من أكبر أزمات النزوح في العالم، مع ملايين النازحين داخليًا ولاجئين في دول الجوار.
يتضح إذن أن الهدف المعلن للحرب، المتمثل في تحقيق الديمقراطية وإقامة العدالة، يتناقض بشكل صارخ مع الممارسات الوحشية على الأرض وحجم المعاناة الإنسانية… إن استعادة الولاية وتحرير مواطنيها من وطأة هذه المليشيات يتطلب، في المقام الأول، توحيد الصفوف خلف قيادة تدرك حجم الداء وتملك الخبرة اللازمة لاستئصاله.
يستدعي الوضع الراهن، بما يتسم به من دمار واسع النطاق وأزمة نزوح غير مسبوقة، تأجيل التنافسات والخلافات السياسية إلى ما بعد تحقيق النصر، وعودة النازحين إلى ديارهم، وتمكين الحكومة من ممارسة مهامها من مقراتها الرسمية، واستئناف المؤسسات الخدمية لعملها… عندها فقط، يمكن تقييم الأداء السياسي وتحديد مسارات المستقبل على أسس مستقرة.
قد يتبادر إلى الذهن تساؤل مشروع: ما الذي يجعل مصطفى تمبور هو القائد المؤهل لهذه المهمة الدقيقة في ظل هذه الظروف المعقدة؟ الإجابة تكمن في مزيج فريد من الخبرتين المدنية والعسكرية التي يتمتع بها… فتجربته الميدانية كقائد في جيش تحرير السودان، ورئاسته لحركة سياسية ثورية، منحته فهمًا عميقًا لتعقيدات المشهد الميداني والسياسي… ومما يعزز هذا الطرح، أنه كان من أوائل من أعلنوا موقفًا لا لبس فيه، وهو خارج السلطة، بالوقوف مع القوات المسلحة ضد مليشيات الدعم السريع المتمردة، في وقت كان فيه آخرون من قادة الحركات المسلحة، ممن يشغلون مناصب قيادية، يترددون في حسم موقفهم.
الجدير بالذكر أيضًا، يُعد تمبور من الشخصيات السياسية الشابة الصاعدة، التي شقت طريقها بجد واستقلالية لافتة منذ أيام الدراسة الجامعية. فقد كان كادرًا مميزًا في تنظيم الجبهة الشعبية المتحدة (UPF)، ثم ناطقًا رسميًا باسم حركة وجيش تحرير السودان، قبل أن يؤسس حركته الحالية… خلال مسيرته السياسية، أظهر قدرة على الإبحار بسفينته وسط أمواج السياسة العاتية وإيصالها إلى بر الأمان وتمثيل قاعدته الشعبية.
ولكونه ابنًا للولاية، الممتدة جغرافياً بين حدود تشاد وأفريقيا الوسطى وسفوح جبل مرة، فهو يمتلك معرفة وثيقة بتفاصيل عللها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية… كما أنه يدرك، بحكم انتمائه للمنطقة، حجم الدمار الذي لحق بها وزاد من معاناتها بعد الحرب الضروس التي دارت رحاها على أرضها.
مع ذلك، لا بد من الإقرار بأن التحديات التي تواجه وسط دارفور هائلة وتتجاوز قدرة أي فرد بمفرده… فإعادة الإعمار، وتحقيق المصالحة المجتمعية، ومعالجة جذور النزاع، وضمان عودة آمنة وكريمة لملايين النازحين، تتطلب جهودًا وطنية ودولية منسقة، ورؤية شاملة تتجاوز الحلول العسكرية والأمنية. إن اختيار القيادة المناسبة للمرحلة الحالية هو خطوة أولى ضرورية، لكن نجاحها مرهون بتوفر الدعم اللازم وبناء توافق أوسع حول مستقبل الولاية والسودان ككل.