مأساة نانسي عجاج ودم الأب المهدور إعلاميًاعلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

 

في واحدة من أكثر البرامج الإعلامية إثارةً للجدل على الساحة الفنية والسياسية، أطلت الفنانة نانسي عجاج على الجمهور أولًا من خلال برومو حوار بثّته مؤسسة إعلامية إماراتية. وقد ظهرت في البرومو في جزء تتحدث فيه عن مقتل والدها الموسيقار الراحل بدر الدين محمد عجاج، رحمه الله، الذي قُتل في حادثة لا تزال تفاصيلها غامضة حتى اليوم.

 

في البرومو، اجتزأ المعدّ جزءًا من كلام الفنانة – بحسب رؤيته – لتحقيق الإثارة، وهو ما تحقق فعلاً. غير أن هذا الجزء المبتور من حديثها فتح عليها أبواب النقد، إلا أن بعض المنتقدين تراجعوا بعد مشاهدتهم الحوار كاملًا وقدموا اعتذارهم، بينما اتهمها آخرون صراحةً بالتورط في حملة تشويه متعمدة ضد والدها، بينهم أفراد من عائلتها، وهنا نعني أختيها نهى ونسرين عجاج، في وقت أشار فيه البعض إلى جهات سياسية متورطة في التلاعب بمحتوى البرومو لإحراج الفنانة، في محاولة واضحة لاستثمار الخلافات والعداءات السياسية بين الأطياف المتعددة في السودان.

 

وقد ورد في البرومو على لسان نانسي أن القاتل الشاب المدان بقتل والدها (قيل إنه كانت تربطه علاقة شاذة) مع والدها، رحمه الله. وعند متابعة الحوار كاملًا، يتضح أنها اتهمت النظام السابق بترويج تلك الإشاعة بهدف هدم مستقبلها الفني وتحجيم دورها السياسي.

 

وما ورد في البرومو فُهم على نطاق واسع كاتهام مباشر لوالدها بالمثلية الجنسية، وإساءة أخلاقية لرجل ميت لم تُتح له فرصة الدفاع عن نفسه. الصدمة الكبرى لم تكن فقط في فحوى التصريح، بل في مصدره: ابنته، وريثته الفنية والبيولوجية. لتحوّل القضية من جريمة قتل إلى مأساة نفسية اجتماعية مركبة، تُطرح فيها أسئلة أعمق تتجاوز السياق الجنائي: لماذا قالت نانسي هذا الكلام؟ ولماذا الآن؟ هل كان دافعها تبرئة نفسها من شبهة العداء لوالدها؟ أم أنها أُجبرت على قول ذلك تحت ضغط إعلامي؟ أم أنها فعلاً تخوض صراعًا داخليًا مع ماضٍ أسري مضطرب لم تجد له خلاصًا سوى بكشف المستور؟

 

ثم، هل كانت نانسي – في ذلك الوقت – ذات دور سياسي يجعل فرضية استهدافها من النظام مقبولة؟ فهي غنّت لأول مرة في حفل بمدينة هارلم الهولندية في مارس أو أبريل من عام 1999، حيث قدّمت أغنيتي “وداعًا روضتي الغنا” و”يا روحي أنصفني”، عندما قدّمها والدها في ذلك الحفل، في حين قُتل والدها بعد تسعة أعوام. فهل كانت تلك الفترة كافية لتشتهر كناشطة سياسية تمثل تهديدًا للنظام القائم آنذاك؟

 

اللقاء الإعلامي الذي بُثت فيه التصريحات لم يكن بريئًا، فقد بدا المذيع فيه كمحقق أكثر من كونه محاورًا، متقمصًا دور القاضي، حيث لمح إلى اتهام نانسي نفسها بالضلوع في مقتل والدها، لعله استند إلى تحقيق الشرطة معها و”غياب الترحم” على روح والدها في حديثها كلما ذُكر اسمه. بدا أن الغرض لم يكن الوصول إلى الحقيقة، بل تفكيك صورة نانسي كفنانة وابنة، ضمن سردية إعلامية مشحونة تتجاوز حدود الفن والسيرة الذاتية، وتهدف إلى خلق الإثارة المطلوبة أو اتخاذها كوسيلة لصرف انتباه السودانيين، في وقت تضرب فيه الطائرات المسيرة بلادهم.

 

تصريحات نانسي حرّكت المياه الراكدة في المجتمع السوداني، الذي لا يزال ينظر إلى المثلية الجنسية بوصفها تهمة أخلاقية مدمرة، لا موضوعًا قابلًا للنقاش. وقد بدا أن نانسي، سواء كانت واعية بذلك أم لا، شاركت في “اغتيال ثانٍ” لوالدها: مرة بالسكين، ومرة أخرى بالتجريح بعد وفاته.

 

وهنا يبرز السؤال الأخطر: هل ما قالته نانسي هو اعتراف حقيقي، أم مجرد رد فعل تحت ضغط حوار عدائي؟ هل فُرض عليها هذا الدور ضمن سياق تبييض وجه مؤسسة إعلامية إماراتية تحاول إظهار دولتها كداعمة للسلام في السودان، في حين أنها متهمة بالمشاركة في تمويل الحرب ضد شعبه؟ وهل كانت نانسي، بفعلها هذا، ضحية استغلال سياسي؟

 

من جهة أخرى، فإن ماضي العلاقة بين نانسي ووالدها ليس خفيًا. فقد كان والدها، بحسب شهادات من أسرتها، غير راضٍ عنها، وتبرأ منها في العام 2000، ومنعها من استخدام اسمه. وعندما قُتل بدر الدين عجاج في يناير 2008، لم يُعرف عن أحد من أفراد الأسرة أنهم قدّموا واجب العزاء لنانسي. وهو ما أضفى على المشهد تعقيدًا أكبر، خاصة في ظل ما قيل عن خلافات شخصية وعائلية طويلة بينهما.

 

القضية تعود إلى مقتل الموسيقار بدر الدين عجاج، رحمه الله، في منزله بمنطقة الفتيحاب في أم درمان، حيث عُثر عليه مقتولًا بثلاث ضربات قاتلة على الرأس بأداة حادة. المتهم، شاب يُدعى محمد إبراهيم عثمان، يبلغ من العمر 24 عامًا، وينحدر من منطقة الكواهلة بالريف الشمالي. ورغم إدانته، ظل محمد يصرّ على براءته حتى لحظة إعدامه، قائلًا إن وجود سيارة القتيل بحوزته كان نتيجة تعامل سابق بينهما في إطار كتابة الأغاني والتلحين. بل إنه ذهب أبعد من ذلك، متوسلًا العفو من أسرة القتيل، وقام بتسليم السيارة للشرطة برفقة شقيقه فور معرفته بالخبر.

 

مدير مركز شباب بحري، أحمد سليمان، أشار حينها في حوار إلى أن المدان أخبره بأن نانسي قد تكون البوابة إلى الأسرة في مساعيه للصلح، وهو ما يلقي بأسئلة حائرة في الموضوع، رغم أن جميع محاولاته باءت بالفشل. القضية انتهت بتنفيذ حكم الإعدام على المدان محمد إبراهيم عثمان، لكن آثارها لم تنتهِ، وها هي تعود اليوم بوجه جديد.

 

بعد بث البرومو الترويجي لحلقة نانسي مع المنصة الإماراتية، دارت دوامة جديدة من الأسئلة. فهل تم استشارتها في اختيار المادة المنشورة؟ وهل وافقت على ما نُشر؟ رغم أن المادة أظهرتها في موقف من تتهم أباها، لأن البرومو بطبيعته يهدف لجذب الانتباه، لكنه في هذه الحالة أثار عاصفة من الغضب والتشكيك.

 

أما في دفاعها عن الإمارات، فقد قالت نانسي إنها ضد “الإخوان المسلمين”، في إشارة إلى تبرير علاقتها بالإمارات عبر موقفها من تيار سياسي. لكن، هل من حقها كفنانة أن تدخل في هذه المعارك السياسية باسم السودان؟ وهل يحق لفنان أن يهاجم تيارًا سياسيًا في وطنه عبر منصة تتبع دولة متورطة في دعم الحرب؟ ومتى أصبحت الإمارات ملاذًا للديمقراطية حتى تُمجَّد من دعاة الحكم المدني؟

 

هل نانسي عجاج تعارض وطنها أم حكومة وطنها؟ وهناك فرق كبير بين الاثنين. ثمة سؤال يطرح نفسه: فإذا كان السودان ضد نظام التوريث في الحكم، فهل يحق له التدخل في الشأن الإماراتي من أجل إنهاء حكم عائلات؟ إذ يحكم آل نهيان إمارة أبوظبي، وآل مكتوم إمارة دبي، والقواسم الشارقة ورأس الخيمة، وآل الشرقي الفجيرة، وآل معلا أم القيوين، وآل النعيمي عجمان. فيما يتولى حاكم أبو ظبي عمومًا منصب رئاسة دولة الإمارات، ويتولى حاكم دبي منصب نائب الرئيس ورئاسة الوزراء. فهذا النظام يُكرّس حكمًا عائليًا متوارثًا، فهل يحق للسودانيين أن يعملوا على فرض حكم مدني متداول سلمياً على الإمارات؟ أم أن ذلك يُعد تدخلًا في الشؤون الداخلية لدولة أخرى؟ فما دخل الإمارات بنوع الحكم في السودان؟

 

وهل من حق السودانيين الذين يقفون ضد الإخوان المسلمين الاستعانة بالأجنبي ضدهم؟ في واحدة من تجليات السياسة الميكافيلية، حيث الغاية تبرر الوسيلة.

لكن، هل كان من الضرورة ذكر إشاعة كاذبة أراد مروجها، أيًا كان موقعه ومهما كنت تبغضه، أن تعيد ترديدها لتُذكر بها الناس؟ هل لو قالت: “الكيزان هم من قتلوا والدها وشوّهوا سمعته” دون ذكر التشويه صراحة، كما ورد، فهل كان ذلك يبرئ ساحتهم؟ المشكلة أن البعض يتحدث عن صدقها. فهل الصدق له معايير تحفظات؟ أم أمر بدون ضوابط؟

 

 

 

في المقابل، ظهرت نسرين بدر الدين عجاج، شقيقة نانسي من جهة والدها، لتؤكد أن نانسي ليست جزءًا من الأسرة منذ أن تبرأ منها والدها في عام 2000، ومنعها من استخدام اسمه. وقالت نسرين إن ما جاء في البرومو إساءة مباشرة لوالدها وأسرة عجاج، واتهمت نانسي باستغلال سمعة والدها لزيادة نسب المشاهدة، في محاولة “مستميتة لإرضاء السيد”، على حد تعبيرها.

 

 

 

وأضافت أن نانسي، في العام 2008، لم تكن معروفة أصلًا لتكون هدفًا لأي تصفية سياسية من النظام، بل كانت على خلاف مع والدها، وكان من الأسهل استهدافها مباشرة إن كان هناك من يريد ذلك. وهذه النقطة مهمة جدًا لمن أراد الحقيقة. كما اتهمتها باستغلال مناسبة وفاة والدها للدعاية لألبومها الثاني، ووصفت ما جرى بأنه نرجسية واستثمار في موت أحد أفراد الأسرة.

 

 

 

وفي خضم هذا كله، عادت إلى السطح قضية البلاغ الذي كانت نانسي قد قدّمته ضد والدها بعدم التعرض، قبل ثلاثة أيام من مقتله. وهو ما جعل الشرطة تحقق معها حينها كمشتبه بها، خصوصًا بعد تصريحات سابقة منها تهدد فيها والدها باستخدام “رجلي أمن”، بحسب ما ذكرته نسرين.

 

 

 

وإن كانت نانسي قد أرادت في حديثها أن تُصوِّر نفسها كضحية لـ”الكيزان”، فقد ردّت نسرين بأن نانسي نفسها كانت مدعومة من جهاز الأمن، وشاركت في حفلات برعاية شركة زين والأجهزة الأمنية، وأنها ظهرت على تلفزيون الدولة دون رقابة، في وقت كانت فيه الفنانات يُمنعن من الظهور بسبب “طرحهن”، في إشارة إلى الالتزام بالزي الشرعي المفروض آنذاك.

 

 

 

في النهاية، يبدو أن ما جرى ليس مجرد لقاء إعلامي، بل فصل جديد من مأساة سودانية معقدة. مأساة فنانة تتهم والدها الراحل باتهامات أخلاقية مدمّرة، في لقاء إعلامي غرضه ليس الحقيقة، بل الإثارة. فلماذا تناولت الأمر بهذه الطريقة، وكان بإمكانها أن تثبت تورط “الكيزان” في مقتل والدها دون التعرض لسمعته؟ ثم إنها ربطت مقتل والدها بعلاقته الفنية مع الراحل مصطفى سيد أحمد، الذي توفي في يناير 1996، وجميع الشعراء الذين تعامل معهم بالنصوص لا يزالون موجودين. نعم، الشارع السوداني يتحدث عن اغتيال الفنان خوجلي عثمان واختفاء الشاعر أبو ذر الغفاري، شاعر “في عيونك ضجة الشوق الهواجس”. أليس من الأسهل الاستناد إلى تلك الحالات بدلًا من الخوض في سمعة الراحل؟

 

 

 

ويبقى السؤال: هل نانسي ضحية سياق إعلامي جائر، أم شريكة فيه؟

وهل كان الهدف حقًا فتح ملف مقتل والدها، أم النيل من رمزية فنية وإنسانية لأغراض تتجاوز الفن بكثير؟

وهل ما زالت الابنة تملك الحق في خوض معركة ضد الميت، أم أن ما يجري هو معركة على الذاكرة، والسيرة، والدم؟