فاشر الصمود.. معركة تحديد المصير 

صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي

 

 

القطيعة “عنكوليب” الونسة .. مقولة سودانية، والمجالس تعج هذه الأيام بالقطائع والشمارات السياسية، لكن الواقع لا يحتمل ثرثرة اللايفات، ولا شمارات السياسة.

الصراع الدامي الذي شرد وقتل وهتك نسيج الشعب السوداني، جعل أهالي الفاشر الصامدين، نموذجاً حياً للتضحية والفداء، وصارت معاركهم دروساً وعبر، ونقطة محورية قد تحدد مسار الحرب.

ما تشهده الفاشر من حصار خانق وقصف مدفعي مستمر ومعاناة إنسانية غير مسبوقة، يجعلها ليست مجرد ساحة للقتال، بل رمزاً لصمود المدنيين وتحدياً للمجتمع الدولي.

لأن الفاشر بموقعها الاستراتيجي وجدت نفسها في قلب العاصفة، ومصيرها قد يرسم ملامح مستقبل السودان بأسره.. جسدت قصة صمود بطولي لمدنيين يواجهون ظروفاً قاسية تفوق التصور، في ظل حصار مطبق تفرضه مليشيات الدعم السريع منذ أبريل/نيسان 2024.

 

 

الحصار ليس مجرد طوق عسكري، بل هو أداة حرب تستهدف شريان الحياة للمدينة، حيث يمنع وصول المواد التموينية الأساسية، والبضائع التجارية، والمساعدات الإنسانية الضرورية.. أدى هذا التضييق المتعمد إلى تفاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق، حيث يعاني السكان من نقص حاد في المياه النظيفة الصالحة للشرب، وشح في الأدوية والمستلزمات الطبية، ونقص مزمن في الغذاء، مما يهدد بكارثة إنسانية وشيكة.

 

 

تتعرض الفاشر لقصف مدفعي مستمر وعشوائي من قبل قوات الدعم السريع، يستهدف منازل المدنيين والمرافق الحيوية، أسفر القصف الوحشي عن سقوط عشرات الضحايا الأبرياء.. في أواخر يونيو 2025، وثقت شبكة أطباء السودان مقتل 13 مدنياً، بينهم 3 أطفال، وإصابة 21 آخرين جراء القصف المدفعي المتعمد، هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي أرواح أزهقت وأسر دمرت، وشهادة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ترتكب في وضح النهار. حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ومفوض حقوق الإنسان فولكر تورك، عبرا صراحة عن قلقهما البالغ إزاء هذه الفظائع، محذرين من تدهور الأوضاع الإنسانية وحقوق الإنسان في المدينة.

 

 

قوات الدعم السريع رغم الهزائم المتتالية رفضت كافة الدعوات الدولية للهدنة وفتح ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية.. بينما القوات المسلحة المنتصرة في كل المحاور وافقت على مقترح الأمم المتحدة لهدنة إنسانية لمدة أسبوع في الفاشر، قوات الدعم السريع برر موقفها أن المبادرة الأممية تهدف إلى إدخال إمدادات للجيش.. هذا الرفض يؤكد استراتيجية التجويع والحصار التي تتبعها المليشيات للضغط على المدنيين ودفعهم إلى النزوح القسري، مما يزيد من معاناة الآلاف الذين فروا من المدينة بحثاً عن الأمان والمأوى.

 

 

لا تقتصر أهمية الفاشر على كونها عاصمة لولاية شمال دارفور، بل تتجاوز ذلك لتصبح نقطة استراتيجية حاسمة في الحرب. تُعد الفاشر المعقل الأخير للقوات المسلحة وحلفائها في إقليم دارفور، مما يجعل السيطرة عليها هدفاً حيوياً لقوات الدعم السريع التي تسعى لإحكام نفوذها على الإقليم بأكمله.. فإذا سقطت الفاشر، فإن ذلك سيمكن الدعم السريع من التحكم في كافة مناطق دارفور، وبالتالي تأمين الإمدادات العسكرية واللوجستية بسهولة، مما يغير موازين القوى بشكل جذري. كما يُعزز موقع الفاشر الجغرافي المحوري من أهميتها الاستراتيجية، حيث تربط السودان بثلاث دول جارة (تشاد، ليبيا، ومصر)، مما جعلها ممراً حيوياً للتجارة والإمدادات، سواء كانت مدنية أو عسكرية.

 

 

كما أنها تُعتبر مركزاً رئيسياً للمساعدات الإنسانية في دارفور، مما يزيد من أهميتها في ظل الأزمة الإنسانية الراهنة.. فمعركة الفاشر ليست مجرد معركة محلية، بل هي من أكثر المعارك المفصلية التي قد تعيد ترسيم المشهد السياسي والعسكري للسودان.. نتيجة هذه المعركة سيتم فرض السيطرة الكاملة على دارفور، أغنى أقاليم السودان بالموارد والثروات.. والحفاظ على الفاشر يعني الحفاظ على خط الدفاع الأول عن باقي السودان، بينما سقوطها قد يؤدي إلى تداعيات وخيمة على استقرار البلاد ووحدتها توقعات ومستقبل الصراع مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، تتجه الأنظار نحو الفاشر كمعركة مفصلية قد تحدد ملامح المشهد السياسي والعسكري للبلاد لسنوات قادمة.

 

 

خطورة الوضع في الفاشر لا تقتصر على الجانب العسكري والإنساني فحسب، بل تمتد لتشمل الجانب الاجتماعي والأمني.. فإذا سقطت الفاشر، هناك خطر كبير من حدوث انتهاكات واعتداءات تستهدف مجموعات عرقية بعينها، بما في ذلك الإعدامات الميدانية والعنف الجنسي، وهو ما حذرت منه الأمم المتحدة مراراً.. هذا السيناريو الكارثي قد يؤدي إلى موجات نزوح جديدة وتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل لا يمكن السيطرة عليه. لذلك فإن ضرورة استعجال الجيش السوداني لفك الحصار عن الفاشر ليست مجرد حاجة عسكرية، بل هي ضرورة إنسانية وأمنية قصوى.. ففك الحصار سيعني فتح ممرات آمنة للمساعدات، وتخفيف المعاناة عن المدنيين، وإعادة الأمل في إمكانية تحقيق الاستقرار. كما أنه سيقطع طرق إمداد الدعم السريع بالبشر والعتاد والسلاح من الدول المجاورة، مما سيضعف موقفها ويقرب نهاية الصراع.