الإمارات وتوريد الموت: حين تتحول الدولة إلى وكيل حرب بالوكالة

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

مرةً أخرى، يتكشف أمامنا مشهدٌ مأساوي يُظهر كيف تجاوزت دولة الإمارات حدود الأدوار السياسية التقليدية، لتصبح فاعلًا رئيسيًا في تصدير الموت والدمار، عبر بوابة صفقات السلاح المشبوهة. لم تعد أبوظبي مجرد لاعب إقليمي، بل باتت بمثابة “سمسار حروب” تزدهر تجارته في ظلال الفوضى، ووكيلًا فعليًا في سلسلة من الحروب بالوكالة التي تفتك بالمجتمعات وتُفكّك الدول. البيان الأخير الصادر عن الحكومة البلغارية، والذي كشف أن الأسلحة التي وُجدت في يد ميليشيا “الدعم السريع” في الخرطوم قد تم تصديرها رسميًا إلى حكومة الإمارات، أوضح أن بلغاريا لم تُرسل أسلحة إلى السودان، وأن الأسلحة التي عُثر عليها بحوزة ميليشيا “الدعم السريع” سبق أن بيعت لحكومة أبوظبي.

 

 

 

وجاء في البيان الرسمي للحكومة البلغارية، الذي نشرته وزارة الدفاع السودانية، ردًا على ما ورد في تقرير القناة الفرنسية بشأن وجود أسلحة بلغارية بيد الميليشيا، أن “الشركة المعنية تُقدّم وثائق تُظهر تتبّع مسار الذخيرة والأسلحة من شركة Dunarit، المُصنِّعة، إلى حكومة الإمارات العربية المتحدة كمستخدم نهائي. وقد أكدت مراجعة وزارة الاقتصاد البلغارية للوثائق أن ترخيص التصدير مُنِح لوكالة حكومية في دولة لا تخضع لعقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أي الإمارات”. وكانت القناة الفرنسية قد تتبّعت مصدر الأسلحة البلغارية التي عثر عليها الجيش السوداني في الخرطوم وظهرت في مقاطع الفيديو، حيث تتبعتها عبر الرقم التسلسلي وتوصّلت إلى الشركة البلغارية التي أبلغتها بأنها باعت الأسلحة لشركة إماراتية تعمل وكيلاً رسميًا ونيابة عن الحكومة الإماراتية، وأن شهادة المستخدم النهائي صَدرت لصالح حكومة دولة الإمارات.

 

 

 

وبحسب تقرير الحكومة البلغارية، فإن القناة الفرنسية حجبت معلومة المستخدم النهائي، وألقت باللائمة على “شركة إماراتية”، ما يعرّض الحكومة والشركة البلغارية لتهمة التهاون في التحقق من المستخدم النهائي وبيع الأسلحة لجهة غير حكومية. وهو ما دفع الحكومة البلغارية إلى إصدار بيان ينص على أن شهادة المستخدم النهائي تعود إلى الحكومة الإماراتية نفسها، لا إلى مجرد شركة خاصة. هذا البيان لا يترك مجالًا للالتباس أو الشك. فالأرقام التسلسلية للأسلحة قادت إلى الشركة المصنعة، التي أكدت تسليم الشحنة إلى حكومة أبوظبي مباشرة، لا إلى شركة خاصة ولا إلى طرف ثالث، بل إلى دولة ذات سيادة اختارت أن تُسهم بشكل مباشر في تغذية نزاع دموي في بلد يكافح من أجل البقاء. في هذه اللحظة، لم يعد التستّر الإعلامي مجديًا. حتى القناة الفرنسية، رغم دقتها في التحقيق، حاولت التخفيف من وقع الفضيحة بتوصيف المستلم بأنه “شركة إماراتية”. لكن بلغاريا، مدفوعةً ربما بشعور بالمسؤولية القانونية أو برغبة في تبرئة نفسها من التواطؤ، أكدت بما لا يدع مجالًا للشك أن المستفيد النهائي هو الحكومة الإماراتية نفسها. بهذه الشهادة، لم تعد الإمارات مجرد ممر للأسلحة، بل أصبحت مصدرًا مباشرًا لمعاناة شعوب بأكملها.

 

 

 

السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا تريد الإمارات من السودان؟

هنا تبدأ الأسئلة الحارقة. ما الذي تسعى إليه أبوظبي من وراء تسليح ميليشيا تورطت في مجازر موثقة وجرائم حرب ضد المدنيين؟

هل هي رغبة في توسيع نفوذها على الأرض؟

هل ترى في السودان ساحة لتصفية حسابات إقليمية مع خصومها؟

هل تطمح إلى منصة لتثبيت وجودها الجيوسياسي والاقتصادي؟

أم أنها مجرد أداة في صراعات أكبر تديرها قوى عظمى، وتؤدي الإمارات فيها دور المنفّذ الميداني؟ النتيجة، في كل السيناريوهات، واحدة: استمرار الحرب، تعقيد فرص الحل السياسي، نزوح الملايين، انهيار مؤسسات الدولة، وتحول السودان إلى ساحة مستباحة لا مكان فيها للأمان أو السيادة.

على مدار العقود الأخيرة، سعت الإمارات إلى بناء صورة براقة لنفسها: دولة حديثة، عصرية، تنموية، تسعى لتصدير نموذجها في الحكم الرأسمالي والاستقرار التقني. لكن خلف ناطحات السحاب، وبرامج الفضاء، وشركات التكنولوجيا، تبرز ملامح وجه آخر، غارق في سياسات التدخل والتخريب. من اليمن إلى ليبيا، ومن القرن الإفريقي إلى السودان، يتكرر النمط ذاته: دعم الفوضى، تمويل الميليشيات، تهميش إرادة الشعوب، ثم التغطية على الجرائم بحملات دعائية لتلميع الصورة أمام العالم. هذه الازدواجية لم تعد تنطلي على أحد. فالعالم لم يعد يقيس قوة الدولة بما تملكه من مال أو ناطحات سحاب، بل بما تمثّله من قيم، وبما تتركه من أثر في محيطها الإنساني.

وللأسف، بات أثر الإمارات في محيطها العربي كارثيًا: دول منهارة، شعوب مشرّدة، وأزمات بلا نهاية.

 

 

في الختام نوجّه نداء إلى العالم المتحضّر: لقد آن الأوان أن يُقال بوضوح: كفى. لم تعد الأقنعة تنفع، ولم يعد التبرير مجديًا. أصبحت السياسة الخارجية الإماراتية عبئًا أخلاقيًا وإنسانيًا على المنطقة، ورمزًا لتفشي نموذج لا يعبأ بالمستقبل، إلا بقدر ما يخدم أطماعه اللحظية. وإذا كانت أبوظبي تطمح لأن تكون قوة إقليمية رائدة، فعليها أن تختار:

إما طريق البناء والاحترام والسلام، أو طريق الخراب والدم، وما يتبعه من عزل سياسي ومأزق أخلاقي وتاريخ لا يرحم.

فلتعد الإمارات إلى رشدها، ولتتوقف عن العبث بمصائر الشعوب.

 

 

ففي نهاية المطاف، لا تُبنى الأمم على ركام الآخرين، ولا تُخلّد الدول التي تزرع الموت،

بل تلك التي تزرع الأمل.