(بقة)… رحيل البهجة وموت ضحكة كانت تسير في شوارع نيالا

ضل الحراز

 

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

ليس من الضروري أن تكون رجل أعمال أو ضابطًا متقاعدًا أو موظفًا مرموقًا في مؤسسات الدولة حتى يفتقدك الناس وتبكيك المدينة عند رحيلك أحيانًا يكفي أن تكون بسيطًا في مظهرك عظيمًا في أثرك صادقًا في ضحكتك حاضرًا في تفاصيل الناس اليومية… كما كان الراحل عبد الباقي محمد موسى الشهير بـ(بقة) فقدت مدينة نيالا بالأمس واحدًا من معالمها الحيّة لا لأنه كان يملك نفوذًا أو ثروة بل لأنه امتلك قلوب الناس بلا استئذان وترك في كل شارع ومكان ضحكة وذكرى وبهجة لا تُنسى لم يكن (بقة) مسؤولًا كبيرًا ولا سياسيًا مرموقًا ولا تاجرًا يملك المتاجر الكبيرة والمؤسسات الاقتصادية المربحة لكنه كان صاحب المهنة الأندر والأنبل إسعاد الناس امتهن الفرح وزرع الضحكات في وجوه المارة وصار جزءًا لا يتجزأ من المشهد العام في نيالا تراه من الاستاد إلى السوق الجنوبي ومن حي الوادي إلى حي الجير أو الخرطوم بالليل ومن المسجد العتيق إلى شرق بنك السودان كان يتنقّل بخفة الفراش وكأن المدينة كلها ملعبه وأهلها جمهوره بثوبه المهلهل وابتسامته الدائمة وهرولته التي لا تتعب كان (بقة) رمزًا لعافية المدينة وجرعة أمل تمشي على قدمين

ضحكاته لم تكن عبثًا بل كانت علاجًا جماعيًا لمدينة تتألم ولسكان يرزحون تحت أعباء الحياةوفقدان (بقة) يشبه تمامًا فقدان أحد المعالم الثابتة كأن يُهدم كبري مكة أو تُزال تبلدية المساحة أو يُمحى حي الوادي من الوجود لأنه لم يكن مجرد شخص بل كان حالة شعورية حقيقية عنوانًا للبساطة ورمزًا للفرح الشعبي من منّا لا يعرف (بقة)؟ من لم يسمع قهقهته الشهيرة؟ من لم يتفاجأ به يظهر فجأة ويطلق نكتة تقلب مزاج المجلس؟ كان حاضرًا في كل المجالس دون دعوة. حتى في غيابه كان حاضرًا في حكايات الناس وسردياتهم كان ضيفًا دائمًا لا يُمل يختصر الحكايات ويشعل المجالس وإذا مرّ يوم في نيالا دون أن يُرى أو يُذكر (بقة) فإن هناك شيئًا ناقصًا… كأن تتناول كوب شاي بلا سكر كان ذاك الشخص الذي تراه في الطريق فتعرف أن الدنيا ما زالت بخير علامة على أن المدينة ما زالت تتنفس رغم ضيق الحال وثقل الأيام عفوًا (بقة) ليس من مثل الحمولة الزائدة في حياتنا… بل من (وجدان المدينة) قد يراه البعض من (هامش المجتمع) لكنه في الحقيقة كان في صميم الوجدان الشعبي

في أحاديث الأطفال ونكات الكبار وفي دفء الجلسات الشعبية التي لا تكتمل بدونه لم يكن يحمل شهادة ولا يعتلي منبرًا ولا يتصدر مشهدًا… لكنه تربّع في قلوب الناس لم يطلب شيئًا من أحد لكنه منح الجميع شيئًا لا يُشترى ابتسامة مجانية في زمن شحيح بالفرح يقول البعض إن الله قد رفع عنه القلم.

لكن المؤكد أن الله ألقى في قلبه محبة الناس ومنحه روحًا خفيفة تحب وتعطي مارس الخير بطريقته الخاصة

ببشاشته وطيبته ووفائه وحضوره الدائم ومبادرته لكل من يعرفهم ومن لا يعرفهم كان كريمًا سَمحًا سخيًا كالمطر يجود بما يُجود به عليه الآخرون

يومًا رأيته يجثو على ركبتيه يُطعم أحد المجانين بل حتى القطط في الطرقات كان يحنو عليها كان عونًا للغلابة وسندًا شعبيًا للجميع لا ينتظر مقابلًا ولا يطلب شكرًا كان يُذكّرنا وسط صخب الحياة أن البساطة كنز وأن النكتة دواء وأن الضحك أحيانًا أهم من الخبز فمن بعد (بقة)… من يُضحك المدينة؟ اليوم ونحن نودّعه لا نودّع شخصًا فقط بل نودّع زمنًا كاملًا من البساطة وتاريخ من الفرح المجاني والقبول غير المشروط نودّع رجلًا كان يُجسّد الضحكة الشعبية النقيّة التي لا تُكلّف شيئًا لكنها تُسعد كل من يسمعها من بعد (بقة).. من يُضحك المدينة؟ من يتنقل بين الأسواق بلا مصلحة؟

من يُطلق نكتة تحفظها الألسن؟ من يزرع ضوءًا في صباحاتنا المتعبة؟

لقد ماتت ضحكة ومات وجه بشوش ومات من كنّا نراه فنقول (الدنيا لسه بخير)

لروحك السلام… يا عبد الباقي

رحمك الله يا عبد الباقي محمد موسى

رحمك الله يا من لم يملك شيئًا لكنه منحنا كل شيء

يا من لم يكن له منصب لكنه ارتقى إلى مرتبة المحبة الحقيقية

سلامٌ عليك يوم ضحكت للناس

وسلامٌ عليك يوم ودّعت المدينة

وسلامٌ على ذكراك التي ستبقى

لأنك كنت من الناس… ولأجل الناس.

(إنا لله وإنا إليه راجعون)