الـ”ما بعد” ليست مجرد نقيض لوجود الشيء، بل هي سياق حتمي وحالة تطورية ثابتة في الموجودات وصيرورات الأشياء. لا شك أن لكل واقع، سواء كان قاسيًا مؤلمًا أو سعيدًا زاخرًا بالأفراح، شكله “المابعدي” الخاص.
وما بعد الحرب حتمًا هو الانتصار، لكن يبقى السؤال: لماذا الحرب؟! ربما يبدو هذا الاستفهام عاريًا، لأن كلنا نعلم أسباب اندلاع الحروب، وندرك أن عالماً بلا نزاعات هو عالم بشري لكنه ليس إنسانيًا، كما عبّر الشاعر زهير بن أبي سلمى:
“وما الحربُ إلا ما علمتم وذُقتمُ… وما هو عنها بالحديث المُرجَّمِ.”
لذا، فإن مرحلة ما بعد الحرب لن تكون سهلة كما يظن البعض، خاصة مع ما تخلّفه من آثار اجتماعية ونفسية ومآسٍ إنسانية. صحيح أن النصر يعني الأمن والسلام لأوطان دُمرت كليًا، لكنه لا يتحقق بمجرد إعلان الانتصار، بل عبر جهود عظيمة لإعادة البناء.
ماذا بعد؟
ماذا لو استُخدمت القوى التي تحررها الحرب من أجل إعادة البناء؟ ماذا لو تم توظيفها بصورة إيجابية في التعمير وإحلال السلام الدائم؟ قبل الاحتفال بالنصر بالطبول والدفوف، علينا التفكير في تحديات ما بعد الحرب، مثل:
• إزالة الألغام من المؤسسات الرسمية والتجمعات السكنية والطرقات والمنازل، فقد زرعت هذه الألغام عمداً لحصد المزيد من الأرواح حتى بعد توقف القتال.
• تنظيف مخلفات الحرب من الجثث البشرية وبقايا الحيوانات المتحللة في الشوارع والميادين وصهاريج المياه والآبار وشواطئ الأنهار التي امتلأت بالجثث.
• جمع السلاح الذي بات أرخص من السلع الغذائية، وضم جميع القوات والحركات المسلحة إلى جيش وطني موحد تحت شعار “جيش واحد، شعب واحد، قرار واحد” بقيادة متفق عليها وبرلمان ومجلس شورى.
• تحقيق المصالحة الوطنية عبر نبذ الأنانية والفساد وخطاب الكراهية، وتعزيز المحبة والتعايش السلمي، إلى جانب تعزيز دور الإعلام في نشر قيم الوحدة والانتماء للوطن.
• عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم بشكل آمن وكريم، بعد استيعاب الجميع للدرس القاسي الذي خلفته الأزمة.
• إشراك الشباب الواعي في مواقع صنع القرار، وتفعيل الرقابة الأمنية، وربط المدن والقرى بوسائل اتصال حديثة، وإنشاء منظومات إنذار مبكر.
• إبعاد التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية، وتعزيز الوحدة الوطنية والاستقرار الأمني، بحيث يكون كل مواطن جزءًا من حماية الوطن.
• تطوير القوات النظامية عبر تعزيز القوات البرية، وإنشاء فرع جديد للقناصين، واستخدام أحدث الوسائل للدفاع والاستجابة السريعة.
• لامركزية الخدمات والإحصاء، وإنشاء مراكز متقدمة للوقاية والعلاج، لضمان مستقبل صحي وآمن للجميع.
السودان وطن متعدد الأعراق والثقافات، لكنه يحتاج إلى إرادة صادقة ليتحقق واقع يُعلي من قيمة المواطنة، حيث يقف الجميع متساوين أمام القانون، ويتمتعون بكامل حقوقهم. هذا هو السودان الذي نحلم به ونسعى لتحقيقه في المستقبل القريب.