التبرع بالمعلومات: خيانة بحسن نية؟

ضل الحراز  بقلم: علي منصور حسب الله

 

في خضم الحرب التي تعصف بالسودان، لم يعد العدو بحاجة إلى طائرات استطلاع متطورة أو جواسيس محترفين لرصد مكامن الضعف ومواقع الأهداف الحيوية. يكفيه فقط أن يفتح هاتفه ويتصفح ما ينشره البعض — بحسن نية أو بسوء نية — على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة “فيسبوك”، ليحصل على تقارير مجانية محدثة بالدقيقة، مدعومة بالصور والمعلومات الفنية، بل وأحيانًا بالتحليلات المفصلة.

 

 

لقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى مناجم معلومات استخباراتية مفتوحة. وهنا يبرز سؤال محوري: لماذا لا تستغل مؤسسات الدولة هذه المنصات لرصد هذا الانفلات المعلوماتي، بدل أن تبقى ساحة مفتوحة أمام العدو؟

هل يمكن لأجهزة الدولة أن تمارس دورًا أوسع من مجرد “الأخ الأكبر” الذي يراقب؟ وهل بإمكانها الموازنة بين حماية الأمن القومي وضمان حرية التعبير للمواطنين؟

المسألة لم تعد تتعلق فقط بمراقبة المحتوى أو إزالته، بل تجاوزت ذلك إلى ضرورة بناء وعي جمعي بمخاطر الإفراط في النشر خلال أوقات الأزمات، وخاصة فيما يخص المنشآت الحيوية أو المواقع المستهدفة. نعم، تقوم شركات التواصل بحذف بعض المحتوى المخالف وتغلق الحسابات التي تروّج للتطرف، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في المعلومات التي يُقدَّم فيها “تصحيح مجاني” للعدو على طبق من ذهب: تحديد دقيق لمكان الاستهداف، وحجم الضرر، والتأثير الفعلي، وكل ما يمكن أن يساعد على توجيه الضربة التالية بشكل أكثر فاعلية.

 

 

فعندما يتعرض سد مروي لهجوم بطائرة مسيّرة، نرى العشرات يهرعون لنشر الصور والمقاطع، ويُرفقونها بتعليقات من قبيل: “الضربة لم تكن مؤثرة”، “التيار سيعود بعد ساعات”، “الخطوط المغذية لم تتضرر”… وهكذا، دون أن يشعروا، يتحول المواطن إلى ناقل نشط للمعلومة الأمنية، يمنح العدو ميزة التصحيح والتحديث في ضربته القادمة.

 

 

ولا غرابة إذن أن تأتي الضربة التالية على عطبرة. والمفزع في الأمر أن المشهد تكرر بنفس السيناريو: صور، معلومات، وطمأنة لا تستفيد منها إلا أجهزة العدو.

والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم نتعلم الدرس بعد؟

الأكثر إيلامًا أن بعض الأصوات، بدلًا من أن تُنادي بوقف هذا النزيف المعلوماتي، راحت تطالب بإقالة قادة وولاة، دون أن تُحمّل المسؤولية للمواطنين الذين يتبرعون بالمعلومات أو يدفعون بها بدافع حب الظهور، أو توهم السبق الصحفي، أو حتى لمجرد التفاعل.

 

 

أين الدعوات لتجريم هذا السلوك؟ لماذا لا تصدر لوائح صارمة تحظر التصوير في مواقع الاستهداف؟ ولماذا لا يتم تثقيف الجمهور بخطورة “البوست العفوي” الذي قد يُسهم — دون قصد — في رسم خريطة المعركة لصالح العدو؟

أيها المواطنون والمواطنات، اعلموا جيدًا أن أكثر من 90% من المعلومات التي تعتمد عليها أجهزة المخابرات تُستقى من الوسائط الإعلامية المفتوحة. نحن من نرسم لهم الخرائط، ونُصحّح لهم الأخطاء، ونُعينهم على الإضرار بنا، وكل ذلك ونحن نحسب أننا “نشارك” أو “ننقل” فحسب.

 

 

لسنا في زمن الترف ولا في وقت يسمح بالعبث. نحن في لحظة مفصلية يتعيّن فيها أن يكون الوعي الأمني مسؤولية وطنية مشتركة. فكل منشور قد يقتل، وكل صورة قد تُستغل، وكل تعليق عابر قد يؤدي إلى كارثة.

 

 

لنحذر جميعًا.

فالوطن لا يحتمل مزيدًا من الطعنات… ولو بحسن نية.