ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في زحمة الحرب والدمار، حيث يغيب الأمل عن الأفق، وتضيع معالم المستقبل، تبزغ شمس مبادرات العطاء كأنها شعاع يبدد الظلمات، ويعيد للقلوب دفء الأمل. من عمق المعاناة السودانية، ومن أرض مليئة بالتحديات والصعوبات، انطلقت مبادرة (إيد على إيد) التي حملت اسمًا قويًا وعميقًا: (عافية وطن)، وهي مبادرة تتجاوز الأطر التقليدية لمبادرات التضامن، لتصبح تعبيرًا حقيقيًا عن النبل، عن الإنسانية، عن الوفاء للوطن وللشعب.
مبادرة أطلقها رجال ونساء عُرف فيهم النخوة والكرم، وعلى رأسهم الرجل الذي لا يحتاج إلى تعريف، الدكتور الصحفي مزمل أبو القاسم، الذي ظل يُصر على الوقوف في صف الحق، والقتال بالكلمة ضد الظلم، والتصدي بكل شجاعة لآفات الفساد، ولم يخسر معركة حتى صار علامة فارقة، فما على المرء إلا أن ينظر أين يقف الدكتور مزمل ليعرف الحق والقيم. لقد كان من الطبيعي أن يكشف رئيس مجلس السيادة وقائد القوات المسلحة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، عن أن الدكتور مزمل هو مهندس هذه المبادرة. ففي مزمل تجسيد حي لشخصية ابن السودان الأصيل، الذي نشأ بين شندي وعشق رمال الفاشر، وتعلم من معاناة الجنينة وجراحها، فظلت قلوب الفقراء والمساكين تسكن ذاكرته، وأصبحت يداه ممدودة إليهم دائمًا، في أي وقت وفي أي زمان. فتح قلبه لكل محتاج، وترك باب بيته مفتوحًا لمن يلج إليه من اليتامى والمساكين، ولم يكن يرد يدًا تسعى للمعونة، مهما كانت ضئيلة.
وكلما تأملنا في الأبيات الخالدة للشاعر الكبير صديق مجتبى في قصيدته (بطاقتي هويتي) التي يقول فيها:
الله يا وطن
أحب شعبك المجيد
أحب سحرك الفريد
ونيلك السخي
نضرة الضفاف والورود
أحب كل ذرة من تراب..
في الشمال..
في الجنوب
وتلكم القُرى
تقدم القِرى لضيفها
وعابر السبيل
معسرون لا يهمهم
فصبرهم جميل
أتقياء.. أنقياء.. طبعهم نبيل
يضوئون ليلهم بنور ربهم
ويحفظون قوله الكريم
طيبون.. وادعون
ثم أنهم يزمجرون كالأسود
ويخرجون غاضبين.. قاهرين للطغاة
وعندها تعكر الحياة
أرواحهم رخيصة الثمن
من أجل عزة الوطن
الله يا وطن
تظل كالجبال شامخاً إذا دعاك داعي الجهاد
فتنتصر وتنزوي تواضعاً
الله يا وطن
في هذه الديار كم يفجر الشهيد
قنابلًا من الغضب
مواكبًا من اللهب
مشاعلًا تظل فوق هامة الزمان
تاج عزنا ورمز أمة في عهدها الجديد
معانقًا لأمسها التليد
…ومهرجان…
وفي فضائك رايةٌ أليفة
كُتبت فوقها بأطهر الدماء
أجد في هذه الكلمات انعكاسًا حقيقيًا لشخصية مزمل أبو القاسم، ذلك الذي سكب جهده وماله في سبيل رفع الظلم عن الفقراء والمحتاجين، دون تردد أو انتظار للمقابل. ظل ينافح ويقاتل بقلمه ما يراه باطلاً، وكانت وما زالت رسالته الحقيقية: أن التضامن والتكافل لا يأتيان من منطلق الواجب فقط، بل من قلب مفعم بالحب والعطف للوطن ولشعبه.
مبادرة (عافية وطن) لم تكن مجرد فكرة، بل هي شعلة أمل تتقد وسط قسوة الواقع، وهي بمثابة دعوة للتماسك الاجتماعي، ليكون الوطن مكانًا يحيا فيه الناس كأفراد أسرة واحدة. هي دعوة للبذل والعطاء، لمنح الفرصة للمحتاجين، وإضاءة الطريق للأيتام والمساكين. لا تقتصر هذه المبادرة على تقديم المساعدات المادية فحسب، بل تشمل أيضًا تقديم الدعم النفسي والمعنوي، لتكون المبادرة بحق تجسيدًا للمواطنة الصادقة، وتتسع لتجعل من الجميع دعاة وحدة، دعاة محبة بين أفراد المجتمع السوداني.
إن هذه المبادرة تبرز في وقت تعيش فيه البلاد ظروفًا استثنائية من الحرب والدمار، ومع ذلك تأتي لتحمل بصيص الأمل، وتعيد إلى الناس طمأنينة القلب بأن العطاء لا يزال مستمرًا، وأنه لا يوقفه شيء مهما اشتدت الأزمات. إن ذلك يعكس أن السودان، رغم كل التحديات، لا يزال ينبض بالحياة، وأن الشعب السوداني، رغم أوجاعه، لا يزال يحتفظ بجوهرة التضامن الاجتماعي التي لا تُقدّر بثمن.
أما عن تكافل أفراد المجتمع في هذه المبادرة، فيكمن سر نجاحها في أنها تنشئ نوعًا من التلاحم العاطفي بين الناس، حيث يتشارك الجميع في هموم الوطن، ويسعون لرفع معاناة بعضهم البعض. إنها ليست مجرد حملة إغاثية، بل هي دعوة لبناء روابط اجتماعية متينة، تقوم على مبدأ (إيد على إيد) لتصبح هذه الأيدي سندًا واحدًا لا ينكسر.
(عافية وطن) تأتي لترسخ قيم التعاون والمساندة، فهي لا تقتصر فقط على مساعدة المحتاجين، بل تشمل حماية الضعفاء، والقيام على الأرامل والأيتام، وتقديم النصر والمواساة لكل من يعاني. هي تكافل إنساني حقيقي في وقت تحتاج فيه البلاد إلى أكثر من مجرد كلمات، بل إلى أفعال تُحيي الأمل وتُعيد بناء ما تهدّم. ولا يمكن أن نغفل عن حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
(الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار).
فهؤلاء الذين يرفعون عن الضعفاء، ويقدّمون يد العون لهم، هم في عين الله سبحانه وتعالى في أعلى المنازل. لذا، حين يفرز الدفاع عن الأوطان أرامل وأيتامًا ومعوقين، فليس من الوفاء تغافلهم، بعد أن قدم أولياؤهم أرواحهم رخيصة في سبيل أوطانهم، ومن أجل أن يعيش شعبهم في عزة وكرامة.
فما أروع أن نجد في شخص الدكتور مزمل أبو القاسم مثالًا حيًا على هذا المبدأ، الذي لا يتوانى عن تقديم المساعدة مهما كانت الظروف. نهتف كما هتفت الجماهير من قبل:
(كمل كمل يا مزمل)
كمل جميلك يا مزمل، فمن مثلك يدرك أن بناء الأوطان لا يكون فقط بالآلات والمعدات، بل بأن نطعم جائعًا، ونساعد مريضًا، ونمسح دمعة يتيم. فبذلك، تُبنى الأمم وتستعيد عافيتها.
أما نحن، شعب السودان، فدعونا نردد بصوت واحد:
إيد على إيد
حتى تصبح (عافية وطن) واقعًا نعيشه في كل زاوية من أرضنا، وفي كل قلب ينبض بحب هذا الوطن. دعونا نمد أيدينا لبعضنا البعض، ونعمل سويًا، فلا مستحيل أمام الإيمان بوطن يشفى من جراحه، وتعود له عزته ومجده.