ضل الحراز: علي منصور حسب الله
عندما يحدث انفجار ما، تختلف التسميات باختلاف الموقع السياسي والقوة الإعلامية. أحدهم يسمّيه “نضالًا”، وآخر يصفه بـ”الإرهاب”. لا علاقة للتسمية بطبيعة الحدث، وإنما بعين من يملك الميكروفون والكاميرا. فالمهيمن، الأقوى، هو من يصوغ الخبر، ويرسم له السياق، ويضخ فيه المعنى، حتى يصبح “الحقيقة الوحيدة” في وعي الجماهير.
في هذا العالم غير المتوازن، تصبح الكلمة أداة للهيمنة، وتتحول وسائل الإعلام إلى منصات لإعادة تشكيل الوعي الجمعي. فلا يُسمع صوت الضعفاء، ولا تُنشر رواياتهم، إلا إذا تبنّاها الأقوياء أو وافقت مصالحهم.
حين يُسرب أحدهم وقائع مجتزأة من محضر اجتماع بعد تحريف مضمونها، لا يعني ذلك أن ما سُرّب هو جوهر الحقيقة أو يمثّل كل ما يستحق النقاش. فهناك وقائع أخطر، بعضها حدث على الهواء مباشرة، مثل واقعة المهندس علي إدريس أكد، وغيرها كثير. لكن لأن هناك جهات ترغب في شيطنة فلان أو علّان، تُنتقى الوقائع وتُبتر السياقات لتخدم غرضًا بعينه.
الحركات المسلحة في السودان طالبت بحقها في السلطة وفق “اتفاق جوبا للسلام”، الذي وُقّع في ظل حكومة انتقالية وبدعم إقليمي ودولي. حينها، اعتُبر خطوة نحو تحقيق السلام. لكن بعد اندلاع حرب 15 أبريل، أصبح ذات المطالبين يُوصفون بأنهم “طُلاب سلطة”، أو “مرتزقة”، أو “تجار حروب”، دون رقيب أو مراجعة.
الصوت السائد، المدعوم بالآلة الإعلامية والسياسية، هو من يحدد التوصيفات. وإذا حاول أحد أن يوضح تعقيدات المشهد دون الانسياق خلف السردية الرسمية، اتُّهم بالعاطفة القبلية، أو الجهوية، أو الانحياز، وقد يُجرد من صفة “القومية”.
بل إنك إن لم تكن مناسبًا للقوالب المعدّة سلفًا، فسيلقى بك في خانة “حارقي البخور” و”المطبلين”، رغم أن كل ما قمتَ به هو الدفاع عن حقك في سرد روايتك، في أن تُفهم لا أن تُدان.
ولعل واحدة من أوضح الأمثلة على اختلال المعايير قصة نيلسون مانديلا، الزعيم الذي أصبح رمزًا عالميًا للنضال والحرية، لكنه ظل حتى عام 2008 مدرجًا في قوائم “الإرهاب” الأميركية، أي بعد خروجه من السجن، وبعد رئاسته لجنوب أفريقيا، وحتى بعد أن تنحّى عن السلطة. يومها، اجتمع الكونغرس الأميركي خصيصًا لإزالة اسمه من تلك القوائم. لم يتغيّر مانديلا، بل تغيّرت مصالح الأقوياء.
في وطننا، تجد صحفيًا يُشيد بـ”درع السودان”، ويدعم القوات المشتركة، ويقف خلف الجيش، والقوات النظامية الأخرى ولا ينسى البراؤون وقوات الأمن والشرطة يكتب عن الفريق اللبيب وصبيرة وعدد من ضباط الجيش دون أن يلتقي أحدهم أو يبحث عنهم مع ذلك يُتّهم بأنه مدفوع بالعاطفة القبلية، ويُجرّد من صفة “القومية”.لمجرد أنه كتب مقال أو مقالين دفاعاً عن رؤية الحركات المسلحة بينما صحفي آخر يصف القوات المشتركة بالمرتزقة، ويطعن في وطنيتهم، ويتحدث عن قادتهم كمجرمي حرب، فيُحتفى به بوصفه “رمزًا قوميًا”، و”وطنيًا حقيقيًا”، و”مثقفًا حرًا”.
فمن الذي يكتب هذه التعريفات؟
هل هم أناس منزّهون، تخلّوا عن أطماعهم، وارتقوا إلى مقام الوطنية الخالصة؟
أم أنهم، كما يخبرنا التاريخ مرارًا، يكتبون ما يخدم مصالحهم، ويعزز مواقعهم في ميزان القوة؟
حين قاد وليد جنا سيارته فوق حقل ألغام في الجيلي، هل كان يبحث عن سلطة أم يذود عن وطن؟
وحين نفّذ الشهيد الملازم عبده بحر عملية استشهادية بـ”كروزر يلاقي كروزر” لتحرير المصفاة، هل كان يبتغي مجدًا شخصيًا أو استوزارًا؟
وكذلك العميد حسين أبو قرجة، الذي كرّر ذات العملية أكثر من مرة، أيُعقل أنه كان يطمع في منصب؟
في هذه الحرب فقدنا ارتال من الشهداء وهم في الصفوف الأمامية يقاتلون في صف الوطن من عائلتي الصغيرة كانوا في الخرطوم وفي مصفاة الجيلي وفي الجزيرة وجبل موية بل في كل شبر قاتل جيشنا الباسل هؤلاء المرتزقه ولم نسفرهم إلى الملاجئ في مصر وغيرها من البلاد المترفة لكن لأننا نرى هناك أخطاء يجب معالجتها يتحدث البعض عن اشياء بمنطقهم يمكن أن نرد اتهاماتهم عليهم
الواقع أن القوانين تُكتب بأقلام الأقوياء. اللغة يُعاد تشكيلها لخدمتهم. المصطلحات تُفصّل لتناسب أجنداتهم.
من الذي قرر أن من يطالب بنسبة 25% من السلطة طمّاع، بينما من يحتفظ بـ75% هو زاهد ووطني؟
من يوزّع صكوك الولاء والانتماء، ويمنحك حق الحديث أو يصادره منك؟
من يُشرّع لنفسه الغضب والثورة، ويُصنّف غضبك أنت كفتنة وتخريب ومؤامرة؟
إنها لعبة المعايير المختلّة. لعبة لا تنتمي إلى العدالة، بل إلى القوة. فالأقوياء ينظرون من الأعلى، ويعيدون تعريف الأخلاق، والوطنية، والعدالة، وحتى الإنسانية، بما يضمن استمرار سطوتهم.
لذلك، حين تم إبعاد خالد انقيدي من موقعه وهو المتخصص في مهامه، وكان ينشر قوائم نتائج امتحان مهنة تنظيم المحاماة بدقة وجيء ببديل، كان أول كشف ينشره مليئًا بالأخطاء، فقيل إنها بسبب “هاكرز”!
ولم يسأل أحد: كيف كان خالد انقيدي يحمي ما ينشره؟
وكم خطأ حُمّل على “هاكرز” مزعوم؟
ذلك لأن كل شيء في حياتك اليومية من ذوقك في الملابس، إلى طريقتك في التعبير عن مشاعرك، إلى مفاهيمك حول “العيب” و”الشرف” و”القيمة” كلها صيغت في مراكز صناعة الوعي، وروّج لها الأقوياء، حتى أصبحت “ذوقًا عامًا”.
حتى تعريفك للوطن، والانتماء، والحرية، والمقاومة، تم إنتاجه في قوالب مظلمة، ثم قُدّم لك كحقيقة مطلقة لا يجوز التشكيك فيها.
الخلاصة: هل ستبقى مستهلكًا للرواية الجاهزة؟
هل اخترت أن تنتظر من ينوب عنك، ليكتب لك حقك، ويدافع عنك، ويعرّفك للعالم؟
هل ستظل تنتظر نخبة تصوغ لك قانونًا يشبهك؟
الحقيقة أنك لن تنال شيئًا ما لم تسترد حقك في التعريف: أن تُسمّي الأشياء بمسمياتها،
أن تروي قصتك بنفسك،
أن تُشكّك في اللغة الجاهزة،
وأن تُعيد النظر في القوالب التي فُرضت عليك. فاللغة ليست بريئة، والمعايير ليست محايدة،
والأقوياء لا يتنازلون عن أدوات السيطرة… ما لم تُنتزع منهم انتزاعًا.