صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
عزيزي القاريء صراحة هذه ليست فكرتي، بل كانت سؤالين طرحهما أحد الأصدقاء في جلسة إنس حينما كنا نتناقش حول مستقبل البلد بعد إنتصار جيشنا الهمام، وتحرير كل شبر من البلاد، من يد مليشيا الإمارات، وقد لاحت البشائر في الأفق.. تسائل صاحبنا عن مصير الكم الهائل من المتعاونين، الذين قبضتهم الأجهزة الأمنية، وأدخلتهم السجون، وأدانتهم المحاكم بالتورط في مساندة مليشيات الدعم السريع في حربها ضد الدولة… تزداد الأرقام كل يوم مع زيادة رقعة الفتح والنصر!… ألا يمثلون عبءاً ثقيلاً على خزينة الدولة المنكوبة وسجونها؟… ولماذا لا تدعمهم يغفروا بعض من ذنوبهم بالمساهمة في إعادة بناء ما دمرته إيديهم؟، وكما يقال في مثلنا الشعبي :” التسويها بايدك تغلب اجاويدك” ، ولأننا شعب متسامح وكريم نريد فقط، أن تعاقب الدولة “أولئك الذين ضل سعيهم” وخربوا بلدهم بايدهم… نريد منها أن تدفعهم ليعيدوا بناءها!.
وإذا سألت عن كيفية ذلك؟ أقول: أنه في خضم التحديات الجسام التي تواجه وضعتنا بعد الحرب، وخاصة الدولة التي تقع على عاتقها إعادة بناء المدن المدمرة… نجد أن السجون وإدارة النزلاء تواجه معضلة كبرى تستدعي حلولاً مبتكرة… فمع تزايد أعداد السجناء، بمن فيهم المتهمون بالتعاون مع مليشيات الدعم السريع في حربها ضد الدولة وتدمير البنى التحتية، الذين يُعرفون بـ”الشفشافة”، يمكن معالجة كل ذلك باستغلال هذه الطاقات البشرية بدلاً من أن تكون عبئاً إضافياً على كاهل الدولة المثقل بالأزمات.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد السجناء الذين تم إطلاق سراحهم أو فروا من السجون السودانية خلال الصراع الأخير يتراوح بين 18 ألفاً و30 ألفاً، وطبعاً لا توجد لدى إحصائية دقيقة للذين عادوا أو أعادتهم السلطات للسجون، كما لا توجد إحصائية للمتهمين “الشفشافة” الذين أوقفتهم السلطات، ولكن حتماً ستكون الأرقام مخيفة، وكذلك التكلفة المحددة لإعاشة السجناء في السودان… إلا أن التكلفة الباهظة لإدارة السجون وإعاشة هذا العدد الهائل من النزلاء تشكل عبئاً اقتصادياً كبيراً على ميزانية الدولة، خاصة في ظل الظروف الراهنة. وبدلاً من أن يكون هؤلاء السجناء مصدراً للاستنزاف المالي، يمكن تحويلهم إلى قوة عاملة تسهم في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، لا سيما وأن جزءاً كبيراً منهم متهم بالتسبب في هذا الدمار.
إن هذه المقاربة لا تخدم فقط الجانب الاقتصادي، بل تحمل في طياتها بعداً تأهيلياً وإصلاحياً مهماً، وتوفر فرصة لتحويل العقوبة إلى مساهمة إيجابية في بناء الوطن…
وحتى يكون الطرح أكثر موضوعية سأحاول دعمه بتجارب دولية ملهمة في استغلال طاقات السجناء: لم تكن فكرة استغلال السجناء في أعمال البناء والإنتاج وليدة اللحظة، بل هي مقاربة تبنتها العديد من الدول حول العالم، محققة بذلك فوائد جمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي… وبدلاً من أن يكون السجن مجرد مكان للعقاب والحرمان من الحرية، تحول في بعض التجارب إلى مؤسسة إصلاحية وتأهيلية تسهم في إعادة دمج النزلاء في المجتمع كأفراد منتجين.
على سبيل المثال، تدرس روسيا إمكانية استغلال السجناء في بناء الملاعب الخاصة بكأس العالم، كما أن هناك برامج تأهيلية في العديد من الدول تركز على تدريب السجناء على حرف ومهن مختلفة مثل صناعة الأثاث، والنجارة، والزراعة، وغيرها من الأعمال التي تساهم في الاقتصاد الوطني.
وفي إيطاليا، فقد تم اقتراح الاستعانة بالسجناء في مشاريع إعادة الإعمار بعد الزلازل، وذلك بهدف توفير فرص عمل لهم والمساهمة في جهود التعافي الوطني.
هذه البرامج لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد لتشمل الجانب التأهيلي والنفسي للسجناء، حيث تساعدهم على اكتساب مهارات جديدة، وتعزز شعورهم بالمسؤولية والإنتاجية، مما يقلل من احتمالية عودتهم للجريمة بعد الإفراج عنهم.
إن توفير فرص عمل للسجناء يساهم في تخفيف العبء المالي عن الدولة، ويحولهم من مستهلكين إلى منتجين، كما يمنحهم فرصة حقيقية لإعادة بناء حياتهم والمساهمة في مجتمعاتهم.
الوضع الراهن في السودان، وما خلفته الحرب من دمار واسع النطاق، يتطلب حلولاً مبتكرة وغير تقليدية، واستغلال السجناء، وخاصة المتهمين بالتعاون مع مليشيات الدعم السريع، في أعمال إعادة الإعمار، يمثل فرصة ذهبية لتحويل التحدي إلى فرصة فمن جهة، سيتم تخفيف العبء المالي عن الدولة، ومن جهة أخرى، سيتم استغلال طاقات بشرية معطلة في عملية بناء الوطن.
يجب على الحكومة الجديدة، ممثلة في رئيس الوزراء ووزير الداخلية، أن تتبنى هذه الرؤية وتعمل على تطوير سياسات وبرامج شاملة تهدف إلى حصر شامل للسجناء، لتحديد أعدادهم، وتصنيفهم حسب التهم الموجهة إليهم، وتحديد المؤهلين منهم للمشاركة في برامج العمل، وتطوير برامج تأهيلية لتدريبهم مهنياً بما تتناسب مع احتياجات سوق العمل ومشاريع إعادة الإعمار، مع التركيز على المهارات الأساسية في البناء والتشييد… وسن التشريعات والقوانين بما يضمن حقوق السجناء العاملين، ويحدد آليات الإشراف والمتابعة، ويضمن عدم استغلالهم… وعمل شراكات مع القطاع الخاص بتشجيع القطاع الخاص على المشاركة في هذه المشاريع، وتوفير فرص عمل للسجناء بعد الإفراج عنهم… وتوعية المجتمع للعمل على تغيير النظرة السلبية تجاه السجناء، وتعزيز مفهوم العدالة التصالحية التي تركز على الإصلاح وإعادة الدمج.
ولأن الأمل كله معقود على حكومة الأمل، التي تحمل على عاتقها مسؤولية إعادة بناء السودان، فهي مطالبة باتخاذ خطوات جريئة وغير تقليدية في تطوير سياسات التنمية، لتشمل المؤسسات الأمنية، وخاصة السجون والإصلاحيات، وتحويلها من مجرد أماكن للاحتجاز إلى مراكز للإصلاح والإنتاج.
إن استغلال طاقات السجناء في إعادة إعمار ما دمرته الحرب ليس مجرد حل اقتصادي، بل هو استثمار في المستقبل، وفرصة لإعادة بناء الثقة، وتعزيز قيم العمل والإنتاجية، وتحقيق العدالة التصالحية التي تضمن للمتضررين التعويض، وللجناة فرصة للإصلاح والمساهمة الإيجابية في بناء وطنهم… إنها دعوة لتحويل “الخراب السريع” إلى “بناء سريع” بأيدي من تسببوا فيه، ليكونوا جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة.
