ضل الحراز
غينيا تنتفض وهل تسقط قلاع النهب الإماراتي في أفريقيا؟
تم إرسال رسالتك
بقلم: علي منصور حسب الله
في عمق القارة السمراء حيث تمتزج الثروات الطبيعية الفريدة بالأزمات السياسية والاقتصادية المزمنة تتسلل القوى الدولية بأوجه جديدة ورايات مختلفة وبينما اعتاد العالم الحديث عن النفوذ الصيني والأمريكي والفرنسي تسطع نجمة أخرى في سماء أفريقيا وهي الإمارات العربية المتحدة التي دخلت المشهد الأفريقي بوجه (الاستثمار والتنمية) لكنها مارست واقعًا يتجاوز الاقتصاد إلى الهندسة الجيوسياسية وبناء النفوذ الصلب
من موانئ جيبوتي والسنغال إلى مناجم الذهب والبوكسيت في السودان وغينيا ومن الزراعة في الفشقة بالسودان إلى الطاقة في أنغولا وموزمبيق تخوض أبوظبي معركة استراتيجية شاملة للهيمنة على مفاصل أفريقيا الاقتصادية والجغرافية مستغلة أدوات المال والخدمات اللوجستية وغالبًا ما تكون شراكاتها مرتبطة بصفقات سياسية وأمنية مع النخب الحاكمة غير أن الصدمة الكبرى جاءت من غينيا عندما قرّر الجنرال مامادي دومبويا الحاكم العسكري الذي صعد إلى السلطة بانقلاب عام 2021 إلغاء امتياز شركة (غينيا ألومينا كوربوريشن) التابعة لـ(الإمارات العالمية للألمنيوم) وتحويل المشروع إلى شركة وطنية خطوة اعتُبرت نقطة تحول جذري في علاقة أفريقيا بالاستثمار الأجنبي لا سيما الإماراتي دومبويا الضابط في القوات الخاصة لم يُعرف فقط بإنهاء حكم ألفا كوندي بل أصبح وجهًا لموجة (الاستقلال الاقتصادي) التي تلوح ملامحها في الأفق الأفريقي بدأ حملة أطلق عليها البعض (التطهير الاقتصادي) حيث مراجعة عقود الشركات الأجنبية التي حوّلت غينيا رغم امتلاكها أكبر احتياطي عالمي من البوكسيت إلى دولة لا تنال سوى الفتات من ثرواتها بينما تتضخّم أرباح الشركات الأجنبية وعلى رأسها الإماراتية
وصف دومبويا قراره بـ(استعادة للسيادة الوطنية) وليس (مصادرة للاستثمار) وهو توصيف وجد صداه في الشارع الغيني الذي طالما عانى من التهميش والفقر في ظل اقتصاد موجّه لخدمة شركات خارجية لا تعبأ بالمواطن بل بالنخبة السياسية التي تبرم معها العقود ولا تأتي الإمارات إلى أفريقيا كدولة تسعى للربح الاقتصادي فحسب بل كمشروع سياسي يتقن صناعة النفوذ عبر أدوات الاستثمار إذ تعتمد استراتيجية تقوم على السيطرة على الموانئ والمطارات عبر ذراعها اللوجستي المتمثل في شركتي (موانئ دبي العالمية ومجموعة أبوظبي للموانئ) اللتين تديران موانئ في أكثر من 9 دول أفريقية أبرزها: جيبوتي والسنغال ومصر والكونغو وأنغولا
والتحكم في الموارد الاستراتيجية من البوكسيت في غينيا إلى الذهب في السودان ونيجيريا والليثيوم واليورانيوم في النيجر وزيمبابوي والكونغو وهي موارد تدخل في الصناعات الحيوية للطاقة والتكنولوجيا وتثير شكوكا متزايدة حول التهريب واستغلال النزاعات والسيطرة على الأراضي الزراعية في دول تعاني أصلاً من نقص الغذاء مثل كينيا ومدغشقر حيث تمتلك الإمارات آلاف الهكتارات تُزرع بمحاصيل تُصدّر مباشرة إلى الخليج لتغذية الماشية الإماراتية بينما يواجه المواطنون المحليون أزمات غذائية حادة هناك تقارير أممية وتحقيقات دولية أكدت أن الذهب الأفريقي يُهرَّب بكميات ضخمة إلى دبي من دول مثل السودان ونيجيريا وغالبًا ما يأتي من مناطق نزاع خاضعة لسيطرة جماعات مسلحة، كـ(مليشيا الدعم السريع) في دارفور بعض هذه الأنشطة متورطة فيها شركات إماراتية لها ارتباطات مشبوهة بجهات مثل مجموعة فاغنر الروسية ويُستخدم الذهب المهرب في تبييض الأموال وتمويل الصراعات في نيجيريا فُتح تحقيق رسمي في كيفية تسريب الذهب خارج القنوات الحكومية إلى الإمارات وهو ما قد يعيد تشكيل العلاقة الثنائية ويشعل جدلًا حول مفهوم (الشراكة الاقتصادية)
ولا يتوقف الحضور الإماراتي عند الاقتصاد بل يمتد إلى السياسة فقد وقّعت أبوظبي اتفاقاً بقيمة 14 مليار دولار لتطوير مشاريع في الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب والجزائر في خطوة رآها مراقبون اصطفافًا سياسيًا واضحًا إلى جانب الرباط ما أشعل فتيل التوتر مع الجزائر وطرح تساؤلات حول توظيف الاستثمار كأداة للابتزاز الجيوسياسي ويذهب بعض المحللين إلى تشبيه (موانئ دبي العالمية) بشركة (غازبروم الروسية) بوصفها أداة استراتيجية للدولة الإماراتية تستخدم للضغط وتوجيه السياسات فالموانئ التي تديرها الإمارات ليست مجرد محطات تجارية بل نقاط ارتكاز للتحكم السياسي كما حدث في ميناء (دوراليه) بجيبوتي حين اضطرت الحكومة لتأميمه بعد اتهامات بالفساد والتلاعب فما فعله دومبويا في غينيا ليس حدثًا معزولًا بل صرخة سياسية تُعيد تعريف العلاقة بين الدول الأفريقية والشركات العابرة للحدود. الخطوة الجريئة قد تلهم دولًا مثل تشاد والنيجر وزامبيا والكونغو لإعادة تقييم العقود الاستثمارية والبحث عن نماذج تنمية تخدم الشعوب لا النخب أو الشركات الأجنبية
إنه ليس مجرد صراع على الاستثمار بل على القرار السيادي لمن يملك الثروة ويحدد معايير التنمية في ظل العوائد الزهيدة والصفقات المشبوهة بدأت الشعوب تدرك أن كثيرًا مما يُسمى استثمارًا ليس سوى استعمار ناعم يتغذى على الصمت والفساد المحلي والدولي قرار غينيا ليس ضربة للإمارات وحدها بل لكامل النموذج الاقتصادي العالمي الذي يشرعن التبعية باسم (الاستثمار) ويُعيد إنتاج الفقر باسم (النمو المستدام) إنه إعلان تمرد على قواعد اللعبة الدولية التي صيغت لخدمة القوى الكبرى قد تكون تشاد أو النيجر أو حتى الكونغو المحطة التالية فالموجة تتصاعد والصوت الأفريقي بدأ يُسمَع من جديد لا كمنطقة بحاجة إلى المساعدة بل كقارة تطالب بحق تقرير المصير الاقتصادي والسياسي إن ما يحدث في أفريقيا اليوم هو لحظة نادرة من التاريخ حيث تتحول (عقود الاستثمار) إلى موضوع للنقاش الشعبي والسياسي ويُطرح سؤال جوهري من يملك أفريقيا؟
هل هم المستثمرون العابرون للقارات؟ أم الشعوب التي حان وقت أن تُكتب باسمها العقود وتُسطر بها الخطط؟ غينيا رفعت الصوت أولًا
فهل تُجيبها أفريقيا؟

