رحيل موجع في صمت النبلاء… وداعًا عادل آدم إبراهيم (عادل كام)علي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

في زمنٍ تتوالى فيه الفواجع بلا إنذار ويغدو الحزن ضيفًا دائمًا لا يغادر حتى صار الإنسان حزمةً من الأحزان أسترجع مقولة (فراق الأحباب سقام الألباب)

تعود الحكايات إلى ذاكرتي… ألف حكاية فراق أتلوها على قلبي كل مساء أواسيه بها حتى لا يقتله الألم

أكتب اليوم وقد ترجل عن دنيانا الأستاذ عادل آدم إبراهيم كمون المعروف في الأوساط الإنسانية والإغاثية باسم (عادل كام) الرجل الذي نذر عمره لقضايا المنكوبين والجوعى ووقف طوال حياته في صفوف المهمّشين رافعًا راية الرحمة في وجه أزمات هذا العالم المتألم

رحل عادل كام في صمتٍ نَبيلٍ يليق برجلٍ قضى حياته في الظل يعمل بلا ضجيج من أجل أن يعيش الآخرون بكرامة لم يكن هذا الرحيل المفجع إلا امتدادًا لحزن ثقيل بدأ قبل نحو شهرٍ ونصف حين ودّع شقيقه الأكبر ثم تبعه برحيل ابنه فلذة كبده ليكتمل مشهد الفقد برحيله هو وكأن القلوب الثلاثة أبرمت عهدًا لا يُنقض أن لا يترك أحدهم الآخر طويلًا في وحشة الحياة

كأن السماء قد اشتاقت إليهم جميعًا فضمّتهم في مواكب الرحمة تباعًا الواحد تلو الآخر…

فأيُّ قلبٍ يحتمل هذا القدر من الغياب؟ وأيُّ روحٍ قادرة على مجابهة الحياة بعد ثلاث ضربات موجعة على هذا النحو؟

لم يكن الأستاذ عادل مجرد موظفٍ في منظمة إنسانية لقد كان روحًا تمشي بين الناس تحمل لهم الدواء والماء والغذاء وتقدّم لهم ما هو أسمى من ذلك الكرامة والأمل

كان من أوائل من يصلون إلى مناطق الكوارث يواجه المجاعة بالحب والحرب بالسلام والدمار بالبناء ولذلك أطلق عليه زملاؤه لقب (عادل كام) لوجوده الدائم في قلب العمل الإغاثي ولارتباط صورته بالإنسانية في معناها الأصيل لا المجازي لم يسعَ يومًا إلى الأضواء رغم أن بصماته كانت تملأ الميدان الإنساني

آمن أن العطاء لا يُقاس بعلو الصوت بل بعمق الأثر وبهذا الإيمان عاش ومضى لكن للرحيل وجهًا آخر من الحزن العميق…

فبينما كان عادل كام يطارد آهات الجوعى ليُسكتها كان يعدّ أيضًا إنسانةً تُكمل رسالته من زاويةٍ أخرى… الكلمة.

ابنته الأستاذة عادلة عادل آدم إعلامية وصحفية سارت على خُطى والدها ولكن بحبر الصحف لا بأكياس الغذاء هي مديرة تحرير صحيفة (نون النسوة) الصحيفة التي أعادت الاعتبار لقضايا النساء والعدالة الاجتماعية وسكرتير تحرير صحيفتي (الشارع السوداني) و(دارفور الآن) إلى جانب عملها في عدد من المنابر الإعلامية المؤثرة في الشأن العام

ورثت من والدها حب الإنسان وشغف القضايا العادلة وروح الإصرار على التغيير وإن اختلفت الأدوات وها هي بعد أن فقدت عمّها ثم شقيقها تقف اليوم على أطراف الجراح لتودّع أباها وسندها ومعلّمها…

رجل لم يكن والدًا فقط بل كان قدوةً ومُلهمًا وركيزة في حياة لا ترحم الضعفاء لكن من يعرف عادلة يدرك جيدًا أن الأب الذي ربّاها على الصلابة لم يُربِّ هشّة

وإن كانت اليوم تبكي بحرقة فإن غدها لا شك سيكون امتدادًا لصوته وستكون كلمتها هي الصدى الذي لا يموت ترك الأستاذ عادل سيرةً تليق بالذاكرة الجماعية لم يكن وزيرًا ولا مسؤولًا كبيرًا لكنه كان عظيمًا في أعين من خدمهم كبيرًا في محافل الإنسانية حيث لا تُقاس القيمة بالمناصب بل بالأثر ترك لنا نموذجًا ناصعًا للإنسان السوداني الذي يعمل في صمت ويُنجز في الظل ويعطي بلا مقابل ترك أسرة متماسكة متعلمة مشبعة بالقيم والمبادئ تعرف أن موت الأجساد لا يعني موت الرسالة وداعًا أيها النبيل… نم قرير العين يا عادل كام لقد أديت ما عليك من رسالة وأسقيت هذه الأرض بأفعالٍ من ذهب فإذا كان الله قد منحنا الحياة فإنه لا يسلبها بالموت

فالموت ليس نقيضًا للحياة بل انتقالٌ بها إلى حياةٍ أخرى…

ثم حياةٌ أخرى بعد البعث ثم عروج في السموات إلى ما لا نهاية لقد عبرت إلى الضفة الأخرى مثقلاً بالحب محاطًا بدعوات كل من عرفك أو سمع عنك أو مرّ بك في لحظة أزمة ها هي السماء بأبوابها الواسعة تحتفي بك بينما نحاول نحن على هذه الأرض القاسية أن نرتّق ما انكسر برحيلك

اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة

واجعله في الفردوس الأعلى مع من سبقوه

وألهم أسرته وخاصة ابنته عادلة الصبر والسلوان

وامنحهم القوة ليستمروا في حمل رسالته

لا بكاءً فقط بل وفاءً وفعلاً وخلودًا