ضل الحراز
بقلم علي منصور حسب الله
في مؤتمرٍ صحفي عُقد بمدينة بورتسودان خرج رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس إلى وسائل الإعلام عقب عودته من نيويورك حيث شارك في أعمال الدورة الـ(88) للجمعية العامة للأمم المتحدة لم تكن كلماته مجرّد تصريحات إعلامية عابرة بل كانت بمثابة وثيقة سياسية وإنسانية وأخلاقية تلخّص الموقف الرسمي والشعبي معاً وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته جاءت تصريحاته كخارطة طريق حقيقية لمرحلة شديدة الحساسية والخطورة تتطلب حُسن إدارة وإرادة سياسية لا تلين وتحركاً دولياً مسؤولاً بعيداً عن ازدواجية المعايير والانحيازات التي طالما شوّهت المواقف الأممية تجاه أزمات الشعوب وعلى رأسها الشعب السوداني
الميليشيات المسلحة… ضرورة التصنيف كتنظيمات إرهابية
في أبرز نقاط كلمته دعا الدكتور كامل إدريس الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى تصنيف الميليشيات المسلحة التي تُمارس جرائم مروّعة بحق المدنيين السودانيين كتنظيمات إرهابية وهو مطلب تأخر كثيراً رغم أن الوقائع على الأرض تجاوزت حدود الوصف وتجاوزت حتى تعريف النزاعات المسلحة لتلامس حدود الإبادة الجماعية والتطهير العرقي فإن ما يحدث اليوم في كردفان ودارفور ولا سيما مدينة الفاشر الصامدة وفي السابق الجزيرة والخرطوم ليس نزاعاً عسكرياً تقليدياً بل هو حربٌ ممنهجة على الهوية والإنسان تمارسها مليشيات لا تخضع لأي شرعية دستورية أو قانونية تستهدف المدنيين العزّل تنهب ممتلكاتهم ترتكب جرائم اغتصاب جماعي وتُهجر السكان من أراضيهم على أسس عرقية لذلك فإن دعوة الحكومة السودانية لتصنيف هذه الجماعات ككيانات إرهابية ليست فقط مطلباً سياسياً بل ضرورة قانونية وإنسانية وأخلاقية لإنقاذ ما تبقّى من الدولة ومؤسساتها ولبناء مستقبل آمن لشعب طال انتظاره للعدالة
الفاشر… مدينة تحاصرها المأساة ويخذلها العالم
من أقسى فقرات المؤتمر الصحفي كانت مناشدة رئيس الوزراء بضرورة رفع الحصار عن مدينة الفاشر التي تعاني من كارثة إنسانية مركبة في ظل صمتٍ دوليٍ يُثير القلق تعيش المدينة حصارًا خانقًا من قِبَل الميليشيات المسلحة منذ شهور أدى إلى انقطاع الإمدادات الغذائية والدوائية وانهيار تام للخدمات الصحية وسط تفاقم يومي في أعداد الضحايا والمصابين وخاصة من النساء والأطفال بالقصف اليومي من قبل المليشيا بواسطة الطيران المسير
الدكتور كامل إدريس أطلق نداءً إنسانياً عاجلاً إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن بضرورة فتح ممرات إنسانية آمنة وهذا ليس طلبًا مرفهًا بل واجبٌ قانوني وأخلاقي على المجتمع الدولي فالميثاق التأسيسي للأمم المتحدة يلزمها بحماية المدنيين ومنع الإبادة الجماعية لا الوقوف موقف المتفرج.
زيارة الأمين العام للأمم المتحدة… اختبار للمصداقية الدولية
أعلن الدكتور كامل إدريس عن قبول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش دعوة لزيارة السودان ورغم أهمية هذه الخطوة على المستوى الرمزي والدبلوماسي فإنها لن تُحدث فرقاً مالم تُترجم إلى مواقف حقيقية على الأرض فالمطلوب من الأمين العام ليس التقاط الصور بل أن يُعلن بوضوح أن الأمم المتحدة تقف مع السودان دولةً وشعباً في وجه الميليشيات والدول الداعمة لها وأن تُتخذ إجراءات عملية فورية منها تعزيز بعثات الأمم المتحدة الإنسانية والرقابية وإيقاف الدعم العسكري الخارجي للمليشيات ومحاسبة المتورطين في الجرائم ضد المدنيين وتقديم الدعم اللوجستي والفني لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
الاتحاد الأفريقي… من يحتاج إلى من؟
في تصريحٍ ذكي وذو دلالة عميقة قال الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر قيلي إن (الاتحاد الأفريقي بحاجة لعودة السودان أكثر من حاجة السودان إليه) وهو تصريح يُفند الرواية التي سوّق لها البعض عن أن تعليق عضوية السودان كان بسبب ظروف داخلية والحقيقة أنه كان انعكاسًا لانحيازات داخل الاتحاد نفسه فالسودان دولة مؤسسة للاتحاد الأفريقي وتاريخياً كان لاعبًا رئيسياً في حفظ السلام في شرق وغرب القارة وغيابه اليوم ليس فقط خسارة للسودان بل فراغ استراتيجي يهدد الأمن الإقليمي والقاري
ولذلك فإن دعم عودة السودان الكاملة إلى مؤسسات الاتحاد يجب أن يكون أولوية للدول الأعضاء ليس من باب المجاملة بل من باب الواجب القاري في دعم الدولة السودانية الشرعية في وجه عدوان داخلي وخارجي منظّم
المساعدات الإنسانية… خط أحمر للسيادة الوطنية
أكد الدكتور كامل إدريس في كلمته أنه (لا يحق لأي جهة أن تفرض علينا معابر إيصال المساعدات) وهي رسالة واضحة موجهة لبعض الجهات الدولية والإقليمية التي تحاول استغلال الأزمة الإنسانية لفرض أمر واقع سياسي على الأرض بعض الجهات لا تقدم المساعدات بهدف الإغاثة بل تستخدمها كغطاء لإدخال الأسلحة والمقاتلين من المرتزقة عابري الحدود وهو ما يجعل الحديث عن المساعدات أحيانًا يحمل أجندات خفية تمس بسيادة البلاد ووحدتها الترابية وأمنها القومي
الدكتور إدريس شدد على أن السودان لن يقبل بمسارات تُفرض من الخارج دون التنسيق مع الحكومة الشرعية لأن ذلك يُعد انتهاكًا مباشرًا للسيادة وقد يُفتح الباب أمام تدخلات تمهد للتقسيم أو الاحتلال المقنّع
لا حياد في وجه الجريمة
ختم الدكتور كامل إدريس كلمته بنداءٍ صريح إلى الضمير الإنساني العالمي: (لا حياد أمام الجريمة ولا صمت أمام المذابح) ما يجري في السودان ليس صراعاً بين أطراف سياسية بل عدوان منظم على دولة وشعب لقد حان الوقت ليختار العالم إما أن يكون إلى جانب الشعب السوداني الذي يذبح كل يوم بصمت أو أن يكون شريكًا في الجريمة بالصمت والتقاعس والمماطلة
إن السودان اليوم لا يطلب الشفقة ولا يتسول المساعدة بل يطالب بحقوقه كدولة ذات سيادة وبالحد الأدنى من التضامن الإنساني الذي تزعم الأمم المتحدة أنها تأسست عليه.
فرصة السودان… وامتحان العالم
كلمة الدكتور كامل إدريس سواء في نيويورك أو في بورتسودان لا تمثل فقط موقف حكومة بل تعكس وجدان شعب جريحٍ لكنه حيٌ وصامد فالسودان اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء دولته على أسس العدالة والسيادة والانتماء الوطني لكن هذه الفرصة لن تدوم طويلاً إذا لم يتحرك العالم بمسؤولية ويتوحد الداخل السوداني حول مشروع جامع لا يقصي أحداً إلا من حمل السلاح على الشعب والدولة.
وختاماً فإن المسؤولية لم تعد فقط على عاتق الحكومة بل على المجتمع الدولي الذي سيُسجل عليه التاريخ إما أنه انتصر لقيم العدالة أو أنه خذل شعباً عظيماً في لحظة سقوط إنساني مريع

