الفاشر تحترق… وصمت العالم شراكة في الجريمةعلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

 

بقلم علي منصور حسب الله

حين تتحوّل السماء إلى مقبرةٍ تُسقِطُ عليها نُجومها لهيبًا وتصبح الملاجئ أفرانًا للموت والمساجد مذابح جماعية بدلًا من أن تكون بيوت رحمة عندها لا يمكن أن نُسمي ما يحدث مجرد حرب بل هو إبادة مدروسة وجريمة إنسانية تستدعي موقفًا أخلاقيًا وقانونيًا لا مرونة فيه ولا تسويف ففي الفاشر تلك المدينة التي ضاقت بأهلها من ويلات الحرب احتُجِزت صرخات الأبرياء تحت ركام الملاجئ وتحوّلت مآذن المساجد إلى شهودٍ على مجازر لا يليق حتى بالخيال الأسود أن يتصورها ومشهد الأطفال المحترقين والنساء والشيوخ الذين لم يجدوا ملجأً سوى النار ليس رقمًا يُحصى في تقريرٍ رتيب إنه إخفاق إنساني كامل لم تُرتكب هذه الجرائم بفعل قوى طارئة فحسب بل بقيت محاطة بشبكات دعمٍ محلية وإقليمية ودولية وبألسنةٍ إعلاميةٍ تُبيح الجريمة أو تُسوِّغها وبسياساتٍ دوليةٍ تختبئ خلف لفظةٍ جبانة (القلق) إن صمت العالم أو اقتصار رده على بياناتٍ نصفية ليس محايدةً بل هو تواطؤ يُسجَّل في صفحات التاريخ

مليشيات الدعم السريع المعروفة باسم الجنجويد لم تكتفِ بقتل المدنيين ونهبهم واغتصاب كرامتهم بل حولت كل فضاء مدني إلى مسرحٍ للإرهاب مراكز إيواء صارعة تُهاجم والمدنيون داخلها ذُبحوا أو احترقوا لدرجة استشهاد (57) وجرح (43) ومساجد تهشم بداخلها الركعون والساجدون ففي مسجد حي الدرجة الأولى استشهد (79) شهيدًا والإحصاءات خاصة النساء والأطفال لا تُطفئ الحسرة بل تُخنقها لأن وراء كل رقم وجهًا واسمًا وحلمًا وبيتًا دُمر أما السؤال الأهم أين العدالة؟ أين المؤسسات الدولية التي ترفع شعارات حماية المدنيين؟ لماذا نرى بيانات (القلق) تتكرر كطقوسٍ فارغة بينما تتواصل آلة التدمير؟ هل تصبح اتفاقيات جنيف مبررًا للاطمئنان على المكاتب وليس على الأرض؟ وهل تختلف كرامة إنسانٍ عن آخر بسبب لون بشرته أو موقعه الجغرافي؟ إن اعتبار هذه الجرائم مسألة داخلية أو لعبة مصالح جيو سياسية هو إهانة لكرامة الإنسانية

ولا يمكن أن نغفل دور الدول الراعية والداعمة من يمدّ هذه المليشيات بالأسلحة المتطورة وبوسائل القتل عن بعد من طائرات مسيّرة ومن يفتح حدودًا وموانئ ومطارات لتدفق المرتزقة والعتاد؟ من يمول ويغذّي ويغطي سياسياً ويبيح للإعلام أدوات تبرير المذبحة؟ إن دعم مثل هذه القوى هو شراكة فعلية في الجريمة ماديًا ومعنويًا ويجب أن يكون لذلك رد دولي حاسم عقوبات مستهدفة حظرًا على نقل الأسلحة ومساءلة جنائية لكل من يشارك في التجهيز أو التمويل أو التبرير والإعلام له نصيبٌ من المسؤولية فبعض من يُسمون بالصحفيين والإعلاميين اختاروا التجارة بالدم يبررون يلوّحون بتفسيرات زائفة أو يوجّهون اللوم إلى الضحايا هذا ليس نقاشًا صحفيًا بل هو غسلٌ لليدين من دماء الأسر البريئة الصحافة الحقيقية تضع الحقائق بلا تغليف لا أن تكون غطاءً للجريمة فنحن لا نطلب ثأرًا بالمعنى المظلم للكلمة لسنا دعاة (العين بالعين) حتى نُعمِّيَ الجميع ولكننا نؤمن بأن السكوت على الجريمة جريمة بحد ذاتها العدالة لا تُبنى بالكلمات الرخوة ولا بتقارير تحمل (القلق) كختمٍ واحد العدالة تُبنَى بإيقاف المجرمين ومصادرة أدواتهم ومقاضاة داعميهم وإعادة الاعتبار للضحايا عبر تعويضات حقيقية وحماية فعّالة للمدنيين وفتح تحقيقات دولية شفافة ومستقلة دعونا نسمِّي الأشياء بمسمياتها ما يحدث في الفاشر ودارفور وكردفان ليس نزاعًا قَبَليًا أو حالة استثنائية يُمكن تبريرها بل هو مشروع إبادة مُمَنهَج يرتكز على كراهيةٍ ممنهجة وحساباتٍ سياسية قذرة ومن يدعم مثل هذه المشاريع حتى بالسكوت أو الكلام الخجول يتحوّل إلى شريكٍ في الجريمة

فالمطلوب الآن بلا لف ولا دوران هو تصنيف فوري لمليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية على المستويات الدولية وملاحقة قادتها بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أمام محاكم دولية ومحلية نزيهة وفرض حظر فوري على تصدير الأسلحة والذخائر والقطع التقنية المرتبطة بالطائرات المسيّرة أو بأي وسائل قتل تجمع بين السرعة والخفاء إلى أي طرف في السودان وفتح تحقيقات دولية مستقلة وشفافة تشمل تتبع مسارات التمويل والسلاح والمرتزقة ومقاضاة الدول والجهات والشركات التي تسهم في تغذية ماكينة القتل وحماية عاجلة للمدنيين عبر مناطق آمنة فعلية وإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق وضمان محاسبة من يمنعونها وتضامن إعلامي حقيقي ينقل الحقيقة دون تزويق ويكشف خطاب التبرير والتحليل الذي يغالف الحقيقة ويشوه الضحية أليس الدم الذي يُسفك في دارفور وكردفان يصرخ طالبًا إنسانية واحدة؟ أليس فينا من يملك ضميرًا يكفي ليقول (كفى؟) إننا لسنا دعاة انتقام بل دعاة عدالة وكرامة نُطالب العالم أن يتوقف عن لعبة الكلمات وأن يتحمل مسؤولياته أمام التاريخ والضمير

لن ينسينا التاريخ ولكن التاريخ يحاسب والسكوت اليوم يعني أن الحساب سيطال الآخرين غدًا. فلتكن الضوضاء الدولية التي لم تُسمع بعد ضوضاء ضغط قانوني وسياسي واقتصادي لإيقاف آلة الموت وتجفيف منابعها وإعادة الأمل إلى من نجوا من الجحيم أما من ضحّوا بدمائهم الطاهرة فستظل دماؤهم تطالب بالحق وذويهم لن ينسوا ولن نغض الطرف عن من زرع الدمار في بلادنا أين أنتم، يا أهل الضمير؟ أين أنتم، أيها العالم؟ هل ستبقون في مُتفرّجين بينما تُكتب هنا صفحة سوداء جديدة؟ أم أنكم تختارون أن تكونوا جزءًا من حلّ يُعيد للإنسان كرامته وحقه في الحياة؟ فالعدالة تبدأ الآن بصوتٍ يسمعه كل ظالم وكل متواطئ لا مكان للإفلات من العقاب

ويجب أن تتولّد حملةٌ وطنية ودولية لتوثيق الجرائم بشكلٍ منهجي ومحترف تسجيل أسماء الشهداء جمع صور الجثث والخرائط التي تبين مواقع الهجمات تسجيل إفادات الناجين والشهود جمع وثائق طبية وتحاليل صور الأقمار الصناعية إن أمكن كلُّ هذا ليس مجرد أرشيفٍ للمأساة بل هو سلاحٌ قانوني ضد المتواطئين والمجرمين على منشقّي الأجهزة أو من لديهم معلومات أن يوفّروا شهاداتهم للآليات المستقلة مع ضمانٍ كامل لحمايتهم فلا سبيل للعدالة دون متابعة جنائية جادة على النشطاء القانونيين والحقوقيين الضغط لإدراج حالات الفاشر ودارفور أمام محاكم دولية ودوائر الجرائم الدولية ومطالبة الدول بإنشاء آليات تحقيق دولية أو مفوضية تقصي حقائق ذات صلاحيات جمع الأدلة وتحويل المتورطين للمحاكمة من يموّل ويزوّد ويُبرر يجب أن يُدرج اسمه في ملفات الاتهام لأن الجريمة لا تنتهي عند منفِّذ الرصاصة بل تمتد إلى من يسهّلها ويموّلها ويغطيها وعلى المجتمع الدولي والهيئات المدنية الضغط لحظر فوري ومُعلَن على نقل الأسلحة والذخائر وقطع الغيار والطائرات المسيّرة إلى أي فصيل يُدان بالانخراط في جرائم ضد المدنيين ليس نقاشًا دبلوماسيًا صامتًا بل قرارات واضحة مع آليات تحقق ومراقبة على الحدود والموانئ والمطارات ومعاقبة الشركات والوسطاء الذين يغضّون الطرف عن تهريب السلاح لكن لا تنتظروا قراراتٍ مؤجلة على المنظمات الإنسانية أن تطالب بفتح ممرات آمنة ورقابة دولية على مؤسسات الإغاثة كما يجب على الدول استضافة مهجّرين مؤقتًا وتقديم دعم للملاجئ وتوفير الرعاية النفسية والطبية للناجين حماية المدنيين ليست تصريحًا بل عملٌ ميداني مطارات آمنة مناطق إيواء محمية وفرق طبية طارئة مجهّزة ويجب أن تُحارَب رواسب العنصرية والتحقير عبر حملاتٍ ثقافية وإعلامية تربط الضحية بالبشرية نفسها محاسبة الإعلاميين الذين يبرّرون المجازر يجب أن تترافق مع تدريب صحفي مهني يُركّز على قواعد التغطية الإنسانية كما ينبغي دعم منصات بديلة توصل أصوات الضحايا بلا تزييف أو تمويه وعلى شعوب الدول الشريكة أو الراعية أن تُمارِس ضغوطًا دؤوبة على حكوماتها باحتجاجات رسائل لممثليها مقاطعات اقتصادية مستهدفة ودعوات لفرض عقوبات تستهدف قادة المليشيا والممولين والوسطاء لا المجتمع بأكمله التضامن الشعبي العالمي ليس رفاهية إنه عامل قد يُسهم في تقييد قدرة الجناة على الاستمرار أما دور المجتمع المدني والشتات والمهاجرون والحركات المدنية الدولية لديهم قدرة على إظهار القضيّة أمام برلمانات ودول وشركات. حملات مقاطعة اقتصادية ضغوط على مؤسسات التمويل وكشف شبكات الاتجار بالموارد المسروقة (كالذهب) يمكن أن يخفف من الموارد التي تُغذي آلة الحرب لا نريد أن تتحول الفاشر إلى خبرٍ عابر في صفحات الإعلام المُهمّ نقل قصص إنسانية أسماء وشعراء ومعلمين ومزارعين لأجيالٍ ليستوا قدرًا أو رقمًا وثّقوا القصص رُوّوا شهادات الأمهات والآباء اتركوا ذاكرة تُقاوم تمزيق الحقيقة لأن الذاكرة هي التي تُلزم العالم بأن يتذكر ويُحاسب لن تخمد النار التي أوقدوها بصرخاتنا وحدها لكن الصمت قاتل أكبر من النار. الغضب يجب أن يتلبس بالقرار توثيق محاسبة ضغط حماية وللمجتمع الدولي نقول بوضوح لا مزيد من كلمات (القلق) التي تُغطي المسدس ولا مزيد من تواطؤٍ يُسهِم في إبادة إنسانية ولمن يعتقد أن الصمت ينجّيها من المسؤولية نقول التاريخ لا ينسى والضحية ستطالب بحقوقها دوماً.

أيا كان لوننا أو مكاننا إن إنسانًا قتل فإن الإنسانية بأسرها قد تضررت فلتكن هذه الكلمة الأخيرة لن نتوقف عن المطالبة حتى تُرفع العدالةُ رايةً حقيقية فوق كل بيتٍ تهدم وكل قبرٍ اُفتتح بغير ذنب لن يتراجع صدورنا عن الرفض ولن ينام ضميرنا ما دام هناك من يرقصون على جراح شعبٍ يموت أمام أعين العالم أين أنتم؟ البلاد تحتاجكم الآن، ليست لانتقامٍ بل لوقفٍ إنساني يُعيد إليها قليلاً من كرامتها