ضل الحراز
بقلم علي منصور حسب الله
عرفتُ الأخ الاتحادي القُح عبد الله سولارا في مرحلة سياسية حرجة تميّزت بتجاذبات حادة بين القوى والتيارات وارتفعت فيها أصوات التخوين والاتهام إلى مستويات غير مسبوقة
مرحلة صار فيها مجرد الاختلاف مع تيار سياسي معين تهمةً مكتملة الأركان وصار الانتماء لموقف وطني متوازن يُعَدُّ خيانة في أعين المتشددين من كل الأطراف في ذلك الزمن خفت صوت العقل تحت ضجيج الولاءات المعلنة وتقدمت الشعارات الرنانة على المبادئ الراسخة وتحوّل كثير من المناضلين إلى طالبي سلطة يركضون خلف المكاسب لا المبادئ
لكن وسط هذا المشهد الباهت كان صوت عبد الله سولارا مختلفًا… ثابتًا… عاقلًا لم يرفع صوته بالصراخ ولم يركض خلف الأضواء بل اختار سلاح الفكر العميق والحُجّة الهادئة كان يناقش خصومه باحترام ويخالفهم دون أن يُعاديهم ويدافع عن قناعاته دون أن يُخاصم أحدًا على الرأي وفي حضرته تُدرك أنك أمام مدرسة فكرية لا شخصية عابرة مدرسة تؤمن بأن التمسك بالمبدأ لا يعني التطرّف وأن احترام الآخر لا يعني التنازل عن الحق منذ أن تعرفت على عبد الله سولارا وجدتني أسترجع شريط الذكريات الطويلة مع رجالات المدرسة الاتحادية مدرسة تميزت بفرادتها ورجالها الذين امتزجوا بالنسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلاد
لم يكونوا مجرد (سياسيين) بل أعمدة حقيقية في المجتمع
أذكر منهم العم بشير حمد مرشح الحزب الاتحادي الديمقراطي في انتخابات عام 1986 عن دائرة أبيي الشمالية بابنوسة وكان من رموز مدينتنا وأعيانها الكبار
أسهم بفعالية في ترقية التعليم وكان له حضور اقتصادي ملموس من خلال معاصر الزيوت التي كان يديرها
في طفولتنا كنا نحن الصبية نجمع الجِركانات الفارغة من الدكاكين ونبيعها له لنكسب منها ما يعيننا على الحياة تعلمنا من تلك التجربة معنى الكدّ وأهمية العمل وقيمة الاعتماد على الذات ومن العم بشير حمد تعلمنا كيف يهتم النبلاء بالصغار
الاتحاديون لم يكونوا بعيدين عن نبض الناس
كانوا جزءًا من السوق ومن الشارع ومن الحارة ومن الحياة اليومية
في نيالا لمعت أسماء اتحادية بارزة مثل أسرة الدابي خاصة أبو سن الدابي الرجل الذي جمع بين التفرد الشخصي والالتزام المجتمعي
كذلك الخليفة محمد نور وأسرة علقم وأسامة عطا المنان بإنسانيته التي لا تُخطئها العين وكرسي، وعمر دفرش وصلاح صالح الشاب النبيل وأزهري الخير البشير رجل الكرم والحكمة والإيثار أحد المؤرخين لتاريخ نيالا ومنصور عبد القادر منصور (أبو منصور) في مدينة كأس ذلك الرجل الذي مارس السياسة بدهاء الحكماء دون أن يؤذي أحدًا إنهم رجال لم يصنعهم الإعلام ولا المنابر بل صنعتهم المواقف وعرّفتهم المجتمعات وحين التقيت بالأخ عبد الله سولارا لم يكن لقاءً عابرًا منذ اللحظة الأولى أدركت أنني أمام رجل ينتمي روحيًا وفكريًا إلى مدرسة الشريف حسين الهندي ذلك الزعيم التاريخي الذي قاوم الدكتاتوريات ورفض أن يُصافح الطغيان فاختار المنفى على أن يهادن
الشريف حسين هو من رفع شعار (لا بديل للديمقراطية إلا الديمقراطية) ليس تكتيكًا بل مبدأً وجوديًا
ومن الطبيعي أن تخرج من مدرسته شخصيات مثل عبد الله سولارا تتمتع بالثبات في زمن التلون وبالوضوح في زمن الغموض وبالصدق في زمن الازدواجية
كتابات عبد الله سولارا تشهد له بقدرة استثنائية على التحليل العميق وعلى الإقناع بالحجة وعلى مخاطبة العقل قبل العاطفة لا يكتب لينال إعجابًا ولا لينتزع تصفيقًا بل ليقول الحقيقة كما يراها… حقيقة الوطن الذي يسكنه ويسكنه الوطن للأسف لم يعد كل من يرفع شعار (الاتحادي) اتحاديًا في جوهره بعض الأسماء التي تحسب نفسها على المدرسة الاتحادية انحرفت عن مسارها وارتضت لنفسها دور (الناطق غير الرسمي) باسم قوى البطش والقتل
حين تنظر إلى مواقف جعفر حسن وبابكر فيصل تشعر بالأسى
كيف سمحوا لأنفسهم بأن يكونوا أبواقًا لمليشيات تقتل الشعب وتنهب المدن وتُهجر العائلات؟
أين ذهب وعيهم السياسي؟ أين اختفى الحس الوطني؟ أين هم من الشريف حسين الهندي الذي قاوم في منفاه حتى الرمق الأخير؟ لكن أمام هذه النماذج المخجلة يبقى أمثال عبد الله سولارا شوكةً في حلق التزييف
يُذكّروننا أن المدرسة الاتحادية لم تكن يومًا مشروع سلطة أو مكاسب بل تيار وطني عريق يؤمن بالتعدد والحرية والعدالة والكرامة فالاتحاديون الحقيقيون ليسوا مجرد حزب بل هم ضمير وطني تشكّل عبر عقود من النضال من بشير حمد إلى عبد الله سولارا ومن الشريف حسين الهندي إلى كل أولئك الذين ما زالوا يدافعون عن الحقيقة هم الاتحاديين
وفي زمن المواقف الرمادية والانتهازية السياسية يبقى أمثال سولارا شموعًا تضيء الطريق المظلم وتؤكد أن السياسة ليست فن الممكن فقط بل يمكن أن تكون فن الأخلاق والنبل والثبات لم أتشرف بالانتماء للحركة الاتحادية لكنني حين أرى مواقف رجالها ونبلهم لا أملك إلا أن أُردّد من أعماق القلب (عاش أبو هاشم) رغم إني لا أعرف من هو هاشم ولا أبوه الذي أدعوا له بالبقاء لكن طالما يقول الاتحاديين ذلك مؤكد أنه حياة ابو هاشم في مصلحة الوطن فليس كشعار حزبي أو هتاف انتخابي بل كتعبير صادق عن الانتماء الروحي والفكري لمدرسة وطنية عظيمة مدرسة ما زالت رغم التشويه والتخريب قادرة على العطاء وقادرة على استعادة دورها الوطني
وما زال رجالها الصادقون قادرين على ترميم ما تهدّم وإحياء ما مات وتذكير الناس أن الوطن لا يُبنى بالصراخ…
بل يُبنى بـالصدق والعمل والثبات والإخلاص
آخر الضل
وعاش أبو هاشم عشرة مرات

