بين القامة والظاهرة (عشة الجبل) نموذجًا لانحدار الذوق الفني في السودانعلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

في زمنٍ مضطربٍ كالذي يعيشه السودان اليوم حيث تتقاطع الأزمات السياسية والاجتماعية مع الانهيارات الاقتصادية والثقافية المتسارعة يتجلّى مشهدٌ مؤسف يتمثل في تدهور الذوق الفني العام وظهور نماذج في الوسط الفني تمثل للأسف الشديد انعكاسًا صارخًا لانحدار القيم الجمالية وتشويه الصورة النقية للفن السوداني الذي لطالما كان منارة إشعاعٍ ثقافي ورسالة سامية تهذّب الذوق وترتقي بالوجدان فلقد كان الفن السوداني منذ نشأته أحد أهم روافد الوعي الجمعي وأداةً للتربية الجمالية والوجدانية ووسيلةً للتعبير عن هموم الشعب وآماله غير أن ما نشهده اليوم من موجة ما يُعرف بـ(الغناء الهابط) يمثل قطيعةً مع هذا التاريخ المشرق وتشويهًا لرسالة الفن الأصيلة

إن ما يُعرف اليوم بالغناء الهابط يفتقر إلى أي قيمة فنية أو أخلاقية حقيقية فهو يقوم على كلماتٍ سطحية مبتذلة وإيقاعاتٍ فقيرة تفتقر إلى الابتكار ويؤثر بشكلٍ سلبي وعميق على الذوق العام والسلوكيات الفردية والجماعية ويتسم هذا النمط من الغناء بعباراتٍ سخيفة خالية من المعنى لا تحترم الذوق العام ولا تحمل أي رسالة إيجابية بل تُغذي الانحدار السلوكي وتفتح الباب واسعًا أمام انتشار الألفاظ البذيئة والسلوكيات غير اللائقة في مجتمعٍ كان يُفاخر بفنه الراقي والمحتشم والخطير في الأمر أن بعض هذه الأغاني باتت تنتشر كالنار في الهشيم وتتسلل إلى البيوت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الترفيهي فتترك آثارًا سلبية عميقة على وجدان المجتمع وتُشوّه ذاكرته الجمالية وتُضعف مقاومته أمام موجة الابتذال والانحدار القيمي والأخطر ظهور أدعياء الفن في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة التيك توك لينشروا غثاء القول وهم يوزعون الاساءات وفاحش القول في صراعات وهمية

ومن أبرز الوجوه التي أصبحت تُضرب بها الأمثال في تردي الذوق الفني المدعوة عائشة محمد صالح المعروفة ب(عشة الجبل) وهي إحدى أبرز رموز ما يمكن تسميته ب(الابتذال المقنّع تحت لافتة الفن) ويتفق كثيرون من المهتمين بالشأن الفني والثقافي في السودان على أن ما تقدمه عشة الجبل لا يرقى لأن يُسمّى غناءً فهو محض تهويمات خالية من المعنى والقيمة لا تمتلك من أدوات الفن شيئًا يُذكر سوى الصخب والإثارة المصطنعة والتصريحات المستفزة والحضور السطحي على وسائل التواصل الاجتماعي الذي توظفه في النيل من الآخرين والتغزل في نفسها وتجريد زميلاتها من أي ميزة ولم تكتفِ بذلك بل تجرأت بالإساءة إلى قامةٍ فنية راحلة في قامة (الحوت) محمود عبد العزيز أحد أعمدة الأغنية السودانية الحديثة مما أدى إلى فصلها من اتحاد الفنانين لكن قبل أن يُصدر مجلس المهن الموسيقية قراره بفصلها من اتحاد الفنانين من حق الجمهور السوداني أن يسأل كيف مُنحت أصلًا تصديقًا لمزاولة الغناء؟ وأين دور المجلس في ضبط الساحة الفنية ومواجهة الابتذال وحماية الذوق العام؟ ولماذا لا يُشرَّع قانونٌ واضح يُلزم صالات الأفراح والحدائق العامة بعدم التعاقد مع من لا يستوفون الحد الأدنى من الشروط الفنية والأخلاقية؟ إن مثل هذا القانون لو تم تفعيله بجدية لأعاد إلى الساحة الفنية هيبتها وتنظيمها بعد سنواتٍ من الفوضى والانفلات التي أثرت مباشرة على الذوق العام وساهمت في تحويل الفن من وسيلةٍ للارتقاء إلى أداةٍ للابتذال فما يُعرف اليوم ب(ظاهرة القونات) لا يمكن تصنيفه ضمن أي إطارٍ فني حقيقي فهي ظاهرة اجتماعية مشوهة تسللت إلى المجال الفني تحت ضغط العولمة والانفتاح الإعلامي وسهولة الوصول إلى الشهرة عبر المنصات الرقمية دون المرور بمراحل النضج الفني والتدريب المهني التي مرّ بها رواد الأغنية السودانية ولنأخذ بعض النماذج من أغنيات هذه الظاهرة المسماة (عشة الجيل) لتبيان مدى الهبوط في المضمون والشكل لديها في أحدي أعمالها تقول (بكيت البكاني والقلب ينساني

يا اخوانا الليلة قام جاني العزة عزتنا ما عرفتوا قيمتنا) تبدو هذه الكلمات كخليطٍ غير مترابط من العبارات العاطفية الفارغة تفتقر إلى الصورة الشعرية والوجدان الحقيقي العبارات سطحية ولا تحمل موقفًا إنسانيًا أو وجدانيًا بل تُركّز على الأنانية والتضخيم الذاتي دون أي بعد فني أو رمزي لا مضمون ولا بناء لغوي ولا جمال موسيقي

فهل ما تؤديه يُعد فنًا؟فلنأخذ مثلاّ هرطقتها (الناس بقت بياعة مصلحجية خداعة

عشرة سنين وسنين

يبيعوها في ساعة) ورغم محاولتها التطرق إلى الخيانة أو تبدل القيم إلا أنها تُقدَّم بلغةٍ مباشرةٍ ومبتذلة تفتقر إلى أي جمالٍ تعبيري والخطاب يفتقد التوازن والعمق ولا يحمل أي إبداع لغوي أو موسيقي مما يجعلها أقرب إلى الهتاف منها إلى الغناء أما في مسيطرة حيث تقول (مسيطرة ماسكة مكاني وأنا سلطانة زماني) فهذه العبارة تجسد الغرور والنرجسية المفتعلة وتحوّل الفن إلى أداةٍ لتغذية الأنا لا لإمتاع الوجدان ما معنى (سلطانة زماني) في سياقٍ فني بلا مضمون؟ إنها كلمات تُروّج لفكرة السيطرة والغرور الأجوف لا للجمال أو الرقي وتنعكس سلبًا على الوعي الجمعي خاصة لدى فئة الشباب وفي عمل آخر تقول (يمه ماكلة مال ابوك ولا مال اخوك حاطة راسك براسلها يا مرة يا كبيرة بتنبزي بالسكر انتي كنتي بتشدي) أليس هذا النص أقرب إلى مشادةٍ كلامية في سوق لا إلى أغنيةٍ فنية؟ يحمل ألفاظًا غير لائقة ومضمونًا يفتقر إلى الذوق العام والاحترام ويعكس مستوى خطيرًا من الانحدار الأخلاقي قبل الفني وتصل قمة الابتذال الفني في قولها (ما بسايرا كضابة مافي زول دايرا شوفو عمايلا خيانة ونبذ استايلا) هذا النص يفيض بالاستعراض والادعاء والانتقاص من الآخرين دون أي قيمة إنسانية أو فنية النصف الأكبر من كلمات الأغنية يمجّد الذات ويُظهر صورة فنية مشوهة تُناقض جوهر الغناء السوداني القائم على العاطفة الصادقة والتواضع والإنسانية

نعلم أنه من الوقاحة والعبث أن تُقارن (عشة الجبل) بفنانةٍ بحجم عشة الفلاتية التي لم تكن مجرد مطربة بل مناضلة بصوتها وأغنياتها ورافدًا من روافد الوعي الوطني فهي غنّت للجنود في جبهات القتال وكانت رسالتها تحمل قيمًا إنسانية ووطنية سامية ومن إرث عشة الفلاتية أغنيتها الخالدة (عني مالم) حيث تقول (عني مالم صدو واتوارو

حظي عاكس ولا هم جارو هدي يا شوق وردد الحانو فكري سرح وهاجت اشجانو) فهنا تتجلى الصدق والعاطفة واللغة الشعرية الراقية التي تحترم المستمع وتسمو بذوقه أما في أغنيتها (يا حنوني) فتقول (يا حنوني وعليك بزيد في جنيوني الليله حبيب منعت وصالك

ضيعت كل ظنوني) هذه الأغنية تعبير عن حالة وجدانية صادقة تجمع بين الجمال اللغوي والموسيقى الهادئة التي تُلامس القلب وفي أغنيتها (حبيب الروح) تقول (لو بعيد عني أو قريب مني أنا أهواك وانت عارفني نشوتي وشكري يوم تقابلني تذهب الآلام والسرور يدني) فهذا هو الفن الذي يُخلّد لأنه ينبع من الوجدان لا من (الترند)

أما أن تُقارن (عشة الجبل) بـمنى الخير فهو ظلمٌ للفن ذاته منى الخير بصوتها العذب وأغنياتها الراسخة كانت تُغني للحب والحياة والجمال لا للغرور والصخب في أغنيتها (يا نعومة) تقول (مبروك عليك الليله يا نعومة يا حليل ناس ديل الزمان بجونا مبروك عليك يا نعيم هنانا بشرب كتير من كاسات هوانا) هذه الأغنية مثالٌ على الفرح السوداني الأصيل الممزوج بالعاطفة والذوق فهي تحمل مفرداتٍ رقيقة وتُعبّر عن المشاركة الاجتماعية والإنسانية وتشيع روح البهجة في نفوس الناس دون ابتذال أو إسفاف أما في أغنيتها (أيام وليالي) فتقول (أيام وليالي قضيتا وحيدًا أشكو حالي أيامي تمر وتمر ليالي وأنا المجروحة ضاعت أمالي) هنا كلمات تنضح بالصدق الإنساني والشجن الوجداني تعبّر عن تجربة شعورية عميقة بلغة شعرية وموسيقية راقية فيها حزنٌ نبيل لا استدرار للعواطف الرخيصة وصوتٌ إنساني يترفع عن الصخب ليعانق التأمل بل حتى في الأغنية الشعبية نسمعها تغني (عريسنا ورد البحر

يا عديلة وقطع جرايد النخل الليلة زينة

عريسنا صافح دخل

يا عديلة فرح قلوب الأهل) فهذا النموذج الشعبي البسيط يجسد روح التراث السوداني بكل صفائه وجماله الكلمات هنا ليست مجرد طرب بل طقس اجتماعي واحتفاء بالحياة والمودة والفرح الجماعي إنها أغنية تعكس الانسجام بين الإنسان والمجتمع لا التفاهة ولا النرجسية كما في أعمال عشة الجبل التي تُسمّى ظلمًا بالأغاني

كانت الأغاني تعكس الأصالة السودانية والجمال البسيط الصادق إلا أن ما يزيد الطين بلة هو أن مثل هذه الظواهر تبدأ في استهداف رموز كبرى كالفنان الراحل محمود عبد العزيز إن مجرد التطاول على ذكراه هو تجاوزٌ أخلاقي ومهني وعدوانٌ على ذاكرة جيلٍ بأكمله فمحمود لم يكن مجرد فنان بل كان حالةً وجدانية وصوتَ جيلٍ وجسرًا نحو الأمل

جمهوره المعروف ب(الحواتة) ليسوا مجرد معجبين بل تيارٌ شعبي وجداني فكري تشكّل حول قيم الفن الصادق فحينما تُسيء (عشة الجبل) للحوت فهي بلا شك تستعدي (الحواتة) في المقام الأول ومن المآسي الكبرى أن وسائل الإعلام الحديثة بدلًا من أن ترتقي بالوعي أصبحت منصّة لترويج التفاهة وتضخيم حضور من لا يستحقون وباتت الشهرة تُقاس بعدد المتابعين لا بعمق الموهبة أو صدق الرسالة فلقد لعبت المنصات الرقمية دورًا مزدوجًا فمن جهة فتحت الباب أمام حرية التعبير ومن جهة أخرى سهّلت صعود الأصوات غير المؤهلة وأعطت (اللاشيء) مساحة لاحتلال الواجهة وفي زمنٍ مضى كان الميكروفون لا يُسلَّم إلا لمن اجتاز اختبارات الإذاعة والتلفزيون وكان التسجيل في مكتبة الإذاعة شرفًا لا يناله إلا من أتقن الأداء واللغة واللحن أما اليوم فأي شخصٍ يستطيع أن يُغني ويسجل وينشر ويجد جمهورًا حتى لو لم يملك من أدوات الفن شيئًا فعلى (عشة الجبل) ومن على شاكلتها أن يفهمن أن الفن ليس جعجعة ولا شهرةً مؤقتة ولا صخبًا إعلاميًا فالفن ليس مظهرًا ولا استعراضًا وليس (ترندًا) يُشغل الناس لأيام ثم يُنسى

فالفن الحقيقي هو مسؤولية وموقف وشرف لا يُنال إلا بالصدق والإبداع والتواضع والفنانة الحقيقية لا تملأ الفضاء ضجيجًا بل تترك أثرًا هادئًا في النفس وبصمة خالدة في الوجدان ومن كانت تعتقد أن الغرور والتضخيم الإعلامي قد يصنعان لها مجدًا فعليها أن تقرأ تاريخ من سبقوها بداية بعشة الفلاتية ومنى الخير مرورًا بمهلة العبادية وأم بلينا السنوسي ثم جيل البلابل وثنائي النغم وحنان بلوبلو وحنان إبراهيم وسميرة دنيا وحنان النيل وسمية حسن بعدهن ندى القلعة وبنات عجاج (نانسي ونُهى) وإنصاف فتحي وفهيمة عبد الله وإيمان الشريف وشادن محمد حسين وميادة قمر الدين وغيرهن وعليها أن تسترجع حياة المبدعين الأوائل الذين نقلوا الفنان إلى مصاف القدوة الحسنة للشباب فهم لم يصعدوا على أكتاف الفضائح بل ارتقوا بأصواتهم وأخلاقهم واحترامهم لجمهورهم فماذا قدّمت عشة الجبل للمكتبة الموسيقية السودانية؟ فالإجابة هنا ببساطة لا شيء يُذكر لا أغنية خُلّدت ولا لحنٌ رَسَخ ولا رسالةٌ وصلت سوى الاستفزازات اللفظية والحركات الفارغة والنرجسية المطلقة فعشة الجبل ورفيقاتها من (القونات) حوّلن ساحات الأعراس والمناسبات الخاصة والعامة من مجرّد احتفالات إلى ساحات استعراضٍ لجسد المرأة والتكسب من حركاتٍ خادشة للحياء العام في مشهدٍ بات يُسيء لصورة المرأة السودانية التي كانت ولا تزال رمزًا للحياء والعفاف والقيم الأصيلة وما يزيد المشهد قبحًا هو تلك المجموعة من الشباب الذين يظهرون في المناسبات بصحبة هؤلاء القونات في مشاهد لا تشبه الرجولة السودانية في شيء شباب يتراقصون بمياعة وبأزياء صارخة وسلوكياتٍ أنثويةٍ منفّرة جعلت الحضور يتساءل أهذه حفلة أم مسرحية عبثية؟ أهذا فن أم فوضى؟ إن الفن السوداني أكبر من التشويه وأغنى من أن يُختصر في ظاهرةٍ عابرة لقد كان وسيظل أرضًا خصبة للإبداع الأصيل وصوتًا للوجدان الشعبي ورسالةً للوعي والجمال

ظاهرة (عشة الجبل) وغيرها من الظواهر المشابهة أي ما يُعرف بـ(القونات) فصلٌ عابر في كتابٍ طويل اسمه (السقوط المؤقت للذوق) وسيُطوى لا محالة لأن ما لا يقوم على الجذور لن يصمد أمام الزمن وما لا يحمل قيمة لن يترك أثرًا وستبقى أسماء مثل عشة الفلاتية ومنى الخير وأم بلينا السنوسي والبلابل هي القامات التي لا تُقارن ولا تُمسّ ولا تتكرر أما الظواهر فتمضي ويذهب صخبها مع الريح…أما الحوت فهو قمةٌ ك(جبل إيفرست) تعجز هذه (المتفننة) أن تصل إليها مهما فعلت وعليها أن تتأدب