فوضى الصلاحيات… وهل سقط كامل إدريس في امتحان الدولة الحديثة؟علي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

 

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

من أبجديات العمل التنفيذي في أي دولة محترمة أن تُصان الصلاحيات وأن تُمارس السلطة داخل حدود واضحة لا يختلط فيها دور رئيس الوزراء بدور الوزير ولا يتجاوز فيها صاحب المنصب الأعلى اختصاصات من هم دونه في الهيكل الإداري فالنظام الإداري ليس أمراً شكلياً كما يظن البعض بل هو أساس الانضباط ومفتاح نجاح أي حكومة تسعى لبناء دولة مؤسسات لا دولة أفراد وبحكم الدساتير والأعراف الإدارية الراسخة فإن تدخل رئيس الوزراء في اختصاصات الوزارات الأخرى يقتصر على التوجيه العام والتنسيق والرقابة بالشكل الذي يضمن تنفيذ السياسات الحكومية الكلية دون أن يتحول هو نفسه إلى (وزير فوق الوزراء) يمارس صلاحيات غيره أو يتجاوز الحدود المرسومة للحكم الرشيد فهو يملك حق إصدار القرارات العليا لكنه لا يمارس بنفسه السلطة التنفيذية التفصيلية الخاصة بكل وزارة وهذه من البديهيات التي لا يختلف حولها اثنان لأن خرقها يعني ببساطة سلب اختصاصات الوزراء وإحداث ما يمكن تسميته دون مبالغة بـ (فوضى في دولاب العمل الحكومي) ً من هذا المبدأ فإن تدخل رئيس الوزراء لإلغاء قرار وزاري مباشر كما حدث في قضية إيقاف الإعلامية لينا يعقوب يُعدّ سابقة تستحق الوقوف عندها فالقضية ليست في القرار ذاته بل في الطريقة التي تم بها فالأصل أن يناقش رئيس الوزراء الوزير المعني أو يطلب منه مراجعة قراره أو يوجهه بإعادة النظر فيه عبر القنوات المؤسسية التي تحفظ مكانة كل طرف أما أن تُلغى قرارات الوزراء بهذه الصورة المباشرة فهذا أقرب إلى ممارسات سلطوية لا تشبه الدولة الحديثة في شيء لقد علّق كثيرون وكان كاتب هذه السطور واحداً منهم آمالاً كبيرة على البروفيسور كامل إدريس استناداً إلى كتابه المهم (السودان 2025: تقويم المسار وحلم المستقبل) الذي قدم فيه رؤية عميقة لتطوير السودان في المجالات الإدارية والسياسية والاقتصادية بدت تلك الرؤية وقتها كخارطة طريق للخروج من مستنقع التخلف والعشوائية والاتجاه نحو الانضباط المؤسسي لكن ما يحدث اليوم من قرارات مرتجلة وتجاوز للصلاحيات وخلل في السلوك المؤسسي يثير سؤالاً موجعًا (هل سقط كامل إدريس في أول امتحان عملي لرؤيته؟)

وهل كان كتابه أحد أمثلة ما اصطلح عليه شعبياً بـ (السواقة بالخلا)؟ النظريات جميلة حين تُكتب على الورق لكن قيمتها الحقيقية تظهر عندما تتحول إلى ممارسة يومية وهنا يبدو أن كامل إدريس رغم تاريخه الأكاديمي ومكانته الدولية قد وقع في فخ الفردانية وتحول إلى ممارسة ما يشبه الديكتاتورية الإدارية التي لا تختلف كثيراً عن ممارسات الأنظمة التي كان ينتقدها فالاستبداد ليس زياً عسكرياً ولا رتبة على الكتف

الاستبداد سلوك يقوم على تجاوز المؤسسات وتهميش الصلاحيات واحتكار القرار وما فعله رئيس الوزراء في مسألة إلغاء القرار الوزاري ليس سوى خطوة في هذا الاتجاه خطوة قد يراها البعض صغيرة لكنها في ميزان الدولة الحديثة خطوة خطيرة جداً لأنها تؤسس لتجاوزات أكبر وتضرب فكرة (الحكومة) و(الوزارات) و(التسلسل الإداري) من جذورها والطامة الكبرى ليست فقط في القرار بل فيما كشفته الإعلامية لينا يعقوب عبر صفحتها وكأنها تمد لسانها ساخرة من الوزارة حين قالت إنها تلقت مكالمة من رئيس الوزراء شخصياً أبلغها فيها برفع الحظر عنها وأشاد بدورها وجهودها الصحفية

وأضافت أنها شكرت رئيس الوزراء لكنها شددت خلال المكالمة على ضرورة توضيح ما تعرضت له من (مضايقات) من وزارة الإعلام مؤكدة:

(تعرّضنا لمضايقات عديدة من وزارة الإعلام وكنا نترفع عن الصغائر…) أليس في هذا الكلام تحدٍّ مباشر للوزارة؟ وأي استخفاف بالمؤسسية أكبر من أن يجد الوزير نفسه مُحاصراً بين قرارٍ ألغاه رئيسه من فوقه وإعلامية تلمّح في العلن إلى تجاوز وزارته لها؟ بالأمس تم تكميم الوزير خالد الأعيسر عندما سحب رئيس الوزراء من وزارته صلاحية الناطق الرسمي وقبلها أُعفيت الدكتورة منى محمد علي رئيس المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية وتم تسريب القرار من مكتب رئيس الوزراء قبل صدوره رسمياً لتتلقى خبر إعفائها وهي داخل مطار بورتسودان وقبل سفرها للمشاركة في مؤتمر بيئي وكأنما يُعاقبونها على مواقفها القوية ضد (دويلة الشر) واليوم، تملأ لينا يعقوب الأسافير حديثاً عن مضايقات من وزارة الثقافة والإعلام بينما رئيس الوزراء لا تهزه المآسي الكبرى

لا مقتل 62 طفلاً في روضة نبع الحنان بكالوقي ولا ما يجري في بابنوسة

ولا عبث الطائرات الإماراتية في مطارات دارفور تلك التي تحمل الطائرات المسيّرة التي قتلت أطفال كالوقي.

لكن رئيس الوزراء بكل سلطاته يتفرغ لمحاربة وزارة الإعلام والمجلس الأعلى للبيئة! فهل كانت صراعات مكتب رئيس الوزراء الإعلامي في المحاكم أهم من هذه الكوارث؟ إذا أراد رئيس الوزراء أن يعيد الثقة في مؤسسات الدولة فعليه أن يحترم تلك المؤسسات أولاً وأن يُدار الخلاف داخل الإطار المؤسسي لا عبر قرارات مفاجئة تُعيد البلاد إلى مربع الحكم الفردي فالدولة الحديثة لا تُبنى بالأماني ولا بالخطابات الرنانة ولامن خلال النظريات التي كتبت في كتب بل بالانضباط المؤسسي واحترام التسلسل الإداري وتقديم المصلحة العامة على نزاعات الأشخاص وربما كان الأجدر بالبروفيسور كامل إدريس بصفته صاحب مشاريع إصلاحية وفكرية أن يكون أول من يحرس هذه المبادئ… لا أول من يخترقها