ضل الحراز
بقلم: علي منصور حسب الله
يبدو أن الدكتور كامل إدريس وبرغم مكانته الأكاديمية الدولية ورصيده الطويل من التجربة في المؤسسات العالمية قد اختار عمداً أو دون قصد نهجاً يثير الكثير من التساؤلات في طريقة إدارته لدولاب الدولة فبدلاً من الاعتماد على منهج مؤسسي واضح المعالم تظهر قراراته في تشكيل طاقمه الاستشاري وكأنها أقرب إلى العلاقات الاجتماعية من كونها نابعة من رؤية استراتيجية أو تخطيط محكم وهذه ليست مجرد انطباعات بل حقائق يعززها واقع الأسماء التي أحاط بها نفسه والظروف الغريبة التي صاحبت تعيين كلٍّ منهم في وقتٍ يمر فيه السودان بمرحلة هي الأخطر في تاريخه الحديث فعلى سبيل المثال جاء اختيار مستشاره السياسي الأستاذ محمد محمد خير الذي وُصف بأنه مستشار عن بُعد ليضيف مزيداً من الغموض حول معايير الانتقاء فقد وضع الرجل شروطاً لقبول المنصب تكاد تكون سابقة في الخدمة العامة منها العمل أونلاين من كندا وأن يكون في الوقت ذاته مستشاراً لعدة وزارات تشمل الثقافة والإعلام والخارجية والشباب والرياضة والبيئة ! كما اشترط ترشيح فريق من الشباب للعمل تحت إشرافه داخل السودان وألا يتقاضى راتباً من الحكومة مقابل توفير الدولة السكن والعربة والمكتب وتحمّل رواتب فريقه هذه الصيغة أقرب إلى عقود المنظمات الدولية أو الشركات الخاصة وليست صيغة عمل حكومي في دولة تواجه انهياراً مؤسسياً واقتصادياً وسياسياً شاملاً أما المستشار الإعلامي للدكتور كامل إدريس الأستاذ محمد عبد القادر رئيس تحرير صحيفة الكرامة فهو شخصية إعلامية معروفة لا يُنكر أحد خبرتها ومع ذلك فإن تعيينه يفتح الباب لتساؤلات مشروعة حول مدى استقلالية الخطاب الإعلامي الرسمي ومدى قدرة مستشار مرتبط بمؤسسة إعلامية خاصة على الفصل بين العمل الصحفي والموقع السياسي الحساس الذي يشغله وفي ملف السلام القبلي يبرز اسم مصلح علي محمد نصار الرشيدي المستشار المختص بهذا الشأن وهذا ملف يتطلب خبرات راسخة في إدارة النزاعات وفهماً عميقاً للبُنى الاجتماعية القبلية وقدرة على مخاطبة جذور الصراع ومن ثمّ يستدعي السؤال هل تمت دراسة هذا الاختيار وفق معايير دقيقة تتناسب مع حجم التحديات أم أنه جاء ضمن السياق العام للعشوائية والتعيينات القائمة على المجاملات أو العلاقات؟ غير أن أكثر الأسماء إثارة للجدل هو مستشاره الاقتصادي وشؤون العلاقات الدولية الدكتور حسين الحفيان الخبير الاقتصادي المقيم في كندا والذي يُقدَّم بوصفه أحد أبرز مهندسي حكومة كامل إدريس وما يزيد حساسية الأمر أن الرأي العام السوداني خاصة الذين قرأوا كتاب الدكتور كامل إدريس (السودان 2025: تقويم المسار وحلم المستقبل) كانوا ينتظرون منه رؤية عملية أكثر نضجاً وواقعية فالكتاب احتوى على رؤى واسعة لإصلاح مستقبل السودان لكنها بقيت معلّقة في الهواء ولم تجد طريقها إلى التنفيذ تماماً كما حدث في تجارب حكومات سابقة وهنا تبرز المقارنة الموضوعية بين الدكتور كامل إدريس والدكتور عبد الله حمدوك فكلاهما يحظى بخلفية دولية ومكانة مرموقة وكلاهما دخل الساحة السياسية على موجة من التعاطف والقبول الشعبي إلا أن أداءهما في نظر قطاع واسع من السودانيين جاء دون التوقعات مع الإشارة إلى أن حمدوك يبدو أفضل من كامل إدريس في بعض النقاط مثل الاتزان فيما كامل إدريس أقرب إلى الانفعال الانتقائي مثل ظهوره وهو يهتف بحياة الرئيس إسياس أفورقي!
وبرغم ذلك لم يُبدِ الرجل انفعالاً مماثلاً تجاه الشهداء الذين سقطوا من الإعلاميين في الفاشر ولم يُظهر موقفاً قوياً تجاه ما جرى في بابنوسة بينما كسر البروتوكول مع إعلامية أوقفتها وزارة الثقافة والإعلام والسياحة وكأن أولويات الدولة قد اختُزلت في قضية فردية! فما هي الأهمية التي تمثلها الأستاذة لينا يعقوب حتى يتجاوز من أجلها تلك الأولويات؟ وهل يريد سعادته أن تترك القنوات الخارجية تفعل ما تشاء دون ضوابط مهنية أو وطنية؟
كان كثير من السودانيين يأملون أن تنعكس تجربة الدكتور كامل إدريس في أوروبا والمنظمات الدولية على أسلوب إدارته للحكومة وأن تأتي هذه التجربة برؤية مؤسسية صارمة ومنضبطة لكن الواقع الماثل يشير إلى عكس ذلك فالرجل يطرح أفكاراً ممتازة نظرياً لكنه يفشل تماماً في ترجمتها إلى واقع ويتعامل مع الأزمات الكبرى بقدر من اللامبالاة والارتباك في وقتٍ يحتاج السودان فيه إلى قيادة تمتلك وضوح الرؤية وصلابة القرار ففي حين كان ينبغي أن يهتزّ وجدان المسؤولين لقضية الأطفال الذين قُتلوا في كالوقي وجدناه يولي اهتماماً أكبر لقضية إعلامية فردية وكأن دماء الأبرياء ليست ذات أولوية وكأن السودان يعيش رفاهية تسمح بانشغالات جانبية في لحظة ينهار فيها كل شيء وما يزيد الأمر خطورة ما يُقرأ من خطوات وإيحاءات تفيد بأن كامل إدريس يسعى لإبعاد الأستاذ خالد الأعيسر عن الوزارة وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلاً ونهمس في أذن الأستاذ الاعيسر لا تمنحهم غايةً سعوا إليها… لا تستقل.
فالأعيسر بشهادة الوقائع لا العاطفة قدّم في حرب الكرامة ما لم يقدمه كامل إدريس ولا أغلب مستشاريه ورغم احترامنا وتقديرنا للسيدين محمد محمد خير ومحمد عبد القادر إلا أن الأعيسر يتفوق عليهما في الجهد والعطاء والتواجد الحقيقي في لحظات الوطن الحرجة يا سعادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إن السودان يمر بأزمة وجودية ليست كسابقاتها ولا يحتمل مزيداً من التجريب ولا المغامرات الإدارية الناس يموتون الأرض تُنهب المؤسسات تتهاوى والملايين يعيشون واقعاً إنسانياً واقتصادياً بالغ القسوة
وفي مثل هذه اللحظات لا يمكن إدارة الدولة بعلاقات عامة أو انطباعات شخصية أو حلول ترقيعية فالمطلوب اليوم رجال دولة لا رجال مناسبات مؤسسات قوية لا دوائر مغلقة قرارات حاسمة لا ردود أفعال متأخرة ومهزوزة إن التجريب في هذا التوقيت ليس مجرد خطأ إداري بل مخاطرة وطنية قد يدفع ثمنها الشعب كله وقد لا يغفر التاريخ لمن ساهم فيها أو تغاضى عنها لذلك اعفاء كامل إدريس ضرورة وطنية ملحة

