ضل الحراز
بقلم علي منصور حسب الله
في لحظة تموج فيها البلاد بالحرب والاضطراب وتحتاج فيها الدولة إلى قدرٍ عالٍ من الوضوح في هياكلها التنفيذية واحترامٍ دقيق لصلاحيات مؤسساتها أصدرت وزارة الثقافة والإعلام والسياحة قراراً بسحب ترخيص مزاولة العمل لمدير قناة العربية في السودان كان القرار مُسبباً وواضحاً ويهدف إلى ضبط حدود العمل الإعلامي في زمن الحرب وفرض هيبة الدولة وتنظيم التعامل مع الإعلام الخارجي بما يتسق مع خطورة المرحلة وتعقيداتها لكن المفاجأة جاءت في خطوة أثارت جدلاً واسعاً تمثّلت في اتصال هاتفي من رئيس الوزراء كامل إدريس بمدير القناة سمح خلالها للقناة بالاستمرار في العمل رغم قرار الوزارة المختصة هذه المفارقة ليست حدثاً عابراً بل مؤشراً خطيراً على خللٍ في إدارة الدولة وعلى تجاوز واضح للتسلسل المؤسسي خصوصاً في ملف حساس كملف الإعلام الأجنبي الذي يفترض أن يخضع لضوابط دقيقة ومسؤوليات واضحة لا مكان فيها للاجتهادات الفردية أو العلاقات الإجتماعية أو حتى المزايدة السياسية
هل يملك رئيس الوزراء صلاحية تجاوز قرار الوزارة؟ السؤال هنا ليس سؤالاً إجرائياً بل سؤال دولة ومؤسسات فهل تمتد صلاحيات رئيس الوزراء إلى إلغاء أو تعديل قرار صادر من الجهة المهنية المختصة؟
إن النظم الحكومية الراسخة توضح أن وزارة الإعلام هي الجهة المنظمة للإعلام الداخلي والخارجي بينما رئيس الوزراء يضع السياسات العامة لكنه لا يتدخل في التفاصيل أو في القرارات الفنية والإجرائية التي تختص بها الوزارات وفق قوانينها ولوائحها لكن ما جرى يوحي ولو ضمناً بأن رئيس الوزراء قد استحوذ على اختصاص الجهة المختصة أو أنه اعتبر ملف الإعلام الخارجي تحت مسؤوليته المباشرة وهذه سابقة خطيرة إن لم تُصحّح بوضوح وبموقف رسمي يعيد الأمور إلى نصابها وهل تحولت تراخيص الإعلام الخارجي إلى مكتب رئيس الوزراء؟ إذا كان رئيس الوزراء قد منح القناة حق العمل عبر مكالمة هاتفية فهذا يفتح الباب أمام أسئلة مقلقة هل أصبحت مكاتب رؤساء الوزراء بديلاً عن الوزارات الفنية؟ هل بات ممكناً إلغاء القرارات الفنية بمجرد ضغوط أو اتصالات شخصية؟ من يتحمل المسؤولية القانونية إذا تجاوزت القناة لاحقاً حدود العمل المهني؟ هل الوزير المختص أم رئيس الوزراء؟ هذه أسئلة ليست شكلية ولا للتنظير السياسي إنها تتصل مباشرة بـ (هيبة الدولة) ومبدأ فصل الصلاحيات والتوزيع الواضح للمسؤوليات والمشهد الأكثر إثارة للحسرة هو ظهور مدير القناة الذي أعيد رغم سحب الترخيص في صفحته الرسمية وعلى شاشة القناة وكأنه يحتفل بانتصاره على قرار الوزارة كأن الأمر صراعٌ شخصي وليس قرار دولة هذا المشهد مؤذٍ للدولة من الداخل لأنه يُظهر أن العلاقات الفردية قد تتغلب على المؤسسات
والنفوذ الإعلامي قد يهزم القرار الرسمي
والوزارة المختصة قد تُهمَّش بقرار شفهي غير رسمي وهي إشارات بالغة الخطورة في بلد يخوض حرباً ويمر بمرحلة تحتاج إلى أعلى درجات الانضباط وحصيلة المشهد نري دولة بلا مؤسسية فما حدث يكشف بوضوح عن تجاوز إداري سافر وخلل في توزيع الصلاحيات بين مستويات السلطة مع إضعاف مباشر لقرار الوزارة المختصة مما يتسبب في تشويش للرأي العام في لحظة حرجة تحتاج إلى تماسك مؤسسي إنها ليست مجرد أزمة تخص وزارة الإعلام بل هي اختبار لمفهوم الدولة وللقدرة على احترام القوانين واللوائح لماذا يجب تحميل رئيس الوزراء كامل إدريس المسؤولية السياسية؟ حتى لو افترضنا حسن النية فإن رئيس الوزراء مسؤول سياسياً عن احترام الحدود الفاصلة بين صلاحياته وصلاحيات وزرائه وحماية حكومته من الاضطراب الإداري والتدخلات غير المؤسسية ومنع الرسائل التي توحي بأن السلطة التنفيذية تعمل وفق المزاج أو العلاقات
وصيانة هيبة القرار العام ومنع تسييله أو إضعافه
لكن ما جرى ترك الوزارة في وضع محرج أمام الرأي العام وظهر وكأن قرارها غير نافذ أو كأنها ليست الجهة المخولة أصلاً هذا وحده يكفي لوضع أداء رئيس الوزراء تحت مجهر المساءلة السياسية فمن حق الشعوب وفي الأنظمة الديمقراطية الراسخة أن تطالب قادتها بالتنحي عندما تتكرر الأخطاء
أو تتجاوز السلطات حدودها أو تتسبب قرارات فردية في إرباك مؤسسي فما حدث في ظرف الحرب والاضطراب يمثل سوء تقدير سياسي خطير ويدل ربما على غياب رؤية مؤسسية لدى رئيس الوزراء لذلك يصبح من المشروع والمنطقي أن تتصدر الدعوات المطالبة بأن يتحمل رئيس الوزراء كامل إدريس مسؤوليته السياسية كاملة بما في ذلك خيار الإقالة أو الاستقالة فلا إصلاح بلا مؤسسية… ولا مؤسسية بلا احترام للصلاحيات
وإن ما حدث ليس سوء تفاهم بين جهة حكومية وقناة إعلامية بل اختبار لمدى احترام الدولة للقانون وللمؤسسية وللفصل بين السلطات التنفيذية وإذا لم يُعالج هذا الخلل بوضوح وشفافية فإن البلاد ستواجه المزيد من الارتباك الإعلامي والإداري والسياسي في لحظة هي أحوج ما تكون فيها إلى الانسجام والتماسك وفي ظل ظروف الحرب فإن ترسيخ دولة المؤسسات ليس ترفاً بل ضرورة وجودية ومن لا يحترم قواعد اللعبة المؤسسية لا ينبغي أن يتصدر واجهتها… أياً كان اسمه أو موقعه ولهذا فإن الدعوة إلى إقالة أو استقالة رئيس الوزراء كامل إدريس ليست دعوة صدام بل مطلب إصلاحي مشروع يهدف إلى حماية الدولة من العبث التنفيذي وإعادة الانضباط المؤسسي لمساره الطبيعي

