مشاهدات إبرة الخبرة في أبو حمد (3-7)

أبو حمد: عبق التاريخ وملتقى الحضارات

 

كتب: يوسف إبرة

مقدمة

 

لم تكن أبو حمد، المدينة النابضة بالحياة اليوم، سوى بقعة صغيرة يسكنها العرب الرحل من الهدندوة والبشارين وغيرهم، ممن كانوا يأتون إليها خلال فترات الجفاف والقحط ليكونوا بالقرب من النيل. وكانت المستوطنة القديمة عبارة عن أكواخ وبيوت طينية متفرقة في المنطقة المعروفة الآن بـ”أبو حمد القديم”، حيث توجد طابية قديمة شيدها قادة المهدية على ربوة عالية مقابل السنجراب بالضفة الشرقية.

 

في بدايات القرن العشرين، ومع تمدد مشاريع الزراعة الحديثة، بدأت ملامح المدينة في التشكل، حيث ظهر مشروع الشيخ بابكر الأحمر الزراعي، وهو أول وأكبر مشروع زراعي في المنطقة يستخدم المكننة الحديثة. قبل إنشاء المشروع، كان يسكن المنطقة أفراد من السكوتاب والريشاب، وهم أبناء عمومة، تم تعويضهم لاحقًا وترحيلهم إلى منطقة القوز الحالية، حيث انضم إليهم الفادنية، الذين ينحدرون من الجعليين، وكانوا قد نزحوا جنوبًا في النصف الأول من القرن التاسع عشر هربًا من انتقام الدفتردار بعد مقتل إسماعيل باشا في المتمة.

 

أبو حمد والنقلة الكبرى مع السكة الحديد

 

مع دخول الحكم الثنائي ومدّ خط السكة الحديد من حلفا إلى الخرطوم، ومن كريمة إلى الخرطوم، تحوّلت أبو حمد إلى نقطة محورية، وحدث انقلاب اقتصادي واجتماعي كبير.

 

أصبحت المدينة ملتقى للقطارات القادمة من مختلف أنحاء السودان، مما أدى إلى نشوء أحياء رئيسية، مثل:

حي القوز (غرب السكة الحديد)

الحي الشرقي (شرق السكة الحديد)

منطقة السوق والورشة

كما تم إنشاء محطة كبيرة للسكة الحديد من الطوب الأحمر، إضافة إلى مساكن للعمال والموظفين. وافتتحت مدرسة ابتدائية للبنين وأخرى للبنات، ثم مدرسة أبو حمد الأميرية الوسطى عام 1958، كما تأسس نادي السكة الحديد والنادي الأهلي، ليصبحا من أهم المراكز الثقافية والرياضية في المدينة.

 

بحلول عام 1915، شهدت المدينة ازدهارًا ملحوظًا، ونما عدد سكانها إلى عدة مئات، بعد أن وفد إليها منسوبو السكة الحديد والتجار من مختلف مناطق السودان، مثل:

أسرة حسن عثمان إسماعيل (من حلفا)

أسرة عبد الرحيم محمد أحمد حرويل (من بربر)

تجار العبابدة المعروفين من آل سند، آل صديق، آل الفضل

سيد سليمان وعباس أبو مرين، اللذان اشتهرت محلاتهما بإنتاج العجوة عالية الجودة

 

سوق أبو حمد.. مركز اقتصادي نابض بالحياة

 

أصبح سوق أبو حمد مركزًا تجاريًا مزدهرًا، خاصة خلال أيام القطارات، حيث كان السكان يبيعون منتجاتهم للركاب، مثل:

الحبال والجردقة والخردوات

الطعمية، العيش البلدي، البيض المسلوق، الشاي والقهوة

منتجات الفلاتة، مثل الفول المر والتمر الهندي (المررو) والترمس

وكان بعض الباعة شخصيات شهيرة في السوق، مثل خديجة بت صالح، فاطمة بت سليمان، خادم الله بت شكور، وجمعة أبو كريع، الذي كان يردد بصوته الجهوري:

“علينا جاي، الشاي الشاي.. ينفع وجع الراس ويوّدِر الدوماس!”

كما كان الشيخ ود أبكر من الجزيرة كجي من أشهر الباعة، وكان أيضًا قارئ قرآن ومادحًا بارزًا في احتفالات المولد النبوي.

 

توسع السوق والخدمات

في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، توسع سوق أبو حمد ليصل إلى حدوده الحالية تقريبًا، وازداد عدد المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي، من أبرزها:

مطعم وادي النيل، لصاحبه محمود سليمان الريس، الذي اشتهر بتحضير الفول السوداني

مطاعم مجدوب الحسين، إبراهيم جلوك، الطيب صديق

مقاهي ود الحسين، حسين كفيلي، عم نوري ريحان، جيب الله، التوم حسن

كما كانت القطارات مصدر رزق ثابت للكثير من العائلات، حيث كان يتم بيع المنتجات اليدوية والأطعمة للركاب والسياح، مما أضفى طابعًا تجاريًا فريدًا على المدينة.

 

السكة الحديد وضبط الوقت في أبو حمد

 

كانت مواعيد القطارات دقيقة إلى حد أن صافرة قطار “مشترك كريمة” عند دخوله المحطة تعني أن الساعة الآن بالضبط السابعة إلا ربع مساءً! وكانت القاطرات تعمل بالبخار حتى بداية السبعينيات، عندما استُبدلت بقاطرات الديزل في عهد الرئيس جعفر نميري.

 

الخدمات الصحية والتعليمية في أبو حمد

 

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت الخدمات الصحية أفضل مما هي عليه الآن، حيث كانت هناك شفخانة حكومية مجهزة جيدًا قبل افتتاح مستشفى أبو حمد العام في أوائل الستينيات، والذي افتتحه الحاكم العسكري للمديرية الشمالية، الأميرالاي محمد المهدي حامد، في عهد الرئيس إبراهيم عبود.

 

كان المستشفى في ذلك الوقت من أنظف وأفضل المستشفيات، مزودًا بأحدث المعدات الطبية، بإدارة الدكتور جمال المصري، وكان به إسعاف مجهز من هدايا المعونة الأمريكية، يقوده العم سيد أحمد عبد الرحمن الشايقي.

 

كما كان هناك مكتب صحة يُشرف على سلامة الأغذية في الأسواق، تحت إدارة ضابط الصحة محمد أحمد طلب، الذي عُرف بصرامته ونزاهته، حيث رفع عدة دعاوى على من حاولوا تقديم رشاوى له مقابل التغاضي عن المخالفات الصحية.

 

بفضل جهود صحة البيئة، لم يكن السكان يعانون من أمراض مثل الملاريا، الدوسنتاريا، والتيفويد، حيث كانت هناك حملات رش منتظمة بالمبيدات، بالإضافة إلى فرق الجمكسين، التي كانت تزور البيوت لمكافحة الأمراض.

 

أبو حمد كمركز اجتماعي وثقافي

 

كان التجار والوجهاء يتجمعون في دكان سر التجار حسن عثمان إسماعيل، الذي كان بمثابة منتدى اجتماعي يومي، يحضره أعيان المدينة، مثل:

العمدة علي عمر البشير

الشيخ خالد إدريس

الشيخ بابكر عبد الله

الشيخ محمد عثمان عمر (شيخ منطقة أبو طين)

الشيخ إدريس عيسى، ابن إدريس الأحمر، الرشيد الأحمر

كما كانت هناك محلات تجارية بارزة، مثل:

دكان شاذلي حسين وأخيه علي

دكان صديق محمد صديق

دكان إبراهيم العبد الترزي

دكان عبد الحي عرزون

مكتبة ربيع سند

ومن أشهر الشخصيات الطريفة في المدينة، والتي لا يزال الناس يذكرونها بابتسامة:

جيب الله إدريس، عبد الرحيم برعي، خليفة كراشة، عثمان عصيدة، التوم حسن خشبة، جمعة أبو كريع، الله معانا أم سروال، جبارة، الكمالي السعيد (سين سؤال وسين جواب)، خميسة، محمود قرقور، ود ديسوني، وبسطاوي الحاوي.

خاتمة

شهدت أبو حمد تحولات كبرى من مجرد نقطة تجمع للرُحل إلى مدينة نابضة بالحياة، ساهم فيها النقل بالسكك الحديدية، والتجارة، والهجرات السكانية. واليوم، تظل أبو حمد محطة تجمع للتاريخ والتراث والثقافة، حيث يتقاطع فيها الماضي مع الحاضر، لتروي لنا قصصًا عن الكفاح، والتجارة، والتحولات الاجتماعية الكبرى.