بيان العار: عندما يخون المعزولون ضمير الوطن

ضل الحراز: علي منصور حسب الله 

 

في خضم المأساة الإنسانية العميقة التي تعيشها مدينة الفاشر، وفي ظل الحصار الوحشي الذي تفرضه مليشيا الدعم السريع على المدنيين والنازحين في معسكرات أبو شوك وزمزم وأبوجا، خرج علينا بيان هزيل لا يحمل ذرة مسؤولية، منسوب لعضوي مجلس السيادة المعزولين الهادي إدريس والطاهر حجر، يطالب فيه المواطنين بالخروج من “مناطق العمليات العسكرية”. بيان لا يرقى حتى لمستوى محاولة التضليل، بل هو شهادة إدانة واضحة لكاتبيه، اللذين اختارا الاصطفاف مع القتلة، وباركا المجازر تحت ستار شعارات كاذبة عن التحول الديمقراطي.

 

 

بأي منطق سياسي أو أخلاقي يُطلب من الضحايا مغادرة مساكنهم ومراكز إيوائهم والتوجه إلى المجهول؟! أليست المناطق التي يُطالب المواطنون بالخروج منها هي نفسها التي تحاصرها المليشيا وتمنع عنها الغذاء والدواء والماء؟ أليست هي التي تُقصف بالمدفعية والطيران المُسيّر وتُرتكب فيها الجرائم ضد الإنسانية على مرأى ومسمع العالم؟

إن البيان لم يأتِ على ذكر معاناة المدنيين، ولم يندد بالقصف، ولم يُطالب المليشيا بوقف إطلاق النار أو فك الحصار، بل حمّل المواطن وحده مسؤولية حمايته، وكأن النازحين هم من يمتلكون المدافع أو يقطعون طرق الإمداد.

 

 

إن من المخجل والمؤلم أن يتحوّل من تصدروا مشهد اتفاقية السلام وأُدخلوا إلى مجلس السيادة باسم “تمثيل الهامش”، إلى مجرد أدوات رخيصة في آلة الحرب الجنجويدية. الهادي إدريس والطاهر حجر اليوم، ليسوا سوى واجهة سياسية متهالكة لمليشيا لا تعرف سوى لغة الدم والنهب.

لقد شارك الاثنان فعلياً في الحرب الجبانة التي تُشن على المدنيين، ووفرا غطاءً سياسياً وإعلامياً لمجازر موثّقة في الجنينة، حيث دُفن الناس أحياء، واُغتصبت النساء، وقُصف الأطفال في المدارس، ودُمّرت المرافق الصحية، ونُهبت مخازن المنظمات الإنسانية.

 

 

أي تحول ديمقراطي هذا الذي يبشر به من يحمل السلاح ضد شعبه؟ أي مدنية تُرجى من مليشيا تعتمد في قوامها على مرتزقة من كولومبيا، وفلول الحركات المتمردة من تشاد وأفريقيا الوسطى ومالي؟ كيف يمكن لمن لا يعرف من السياسة سوى لغة البندقية والنهب أن يكون بوابة التغيير؟

الرهان على المليشيا لم يكن خطأً سياسياً فقط، بل خيانة كبرى لثقة النازحين الذين كانوا يوماً يأملون في أن يكون هؤلاء القادة صوتهم في السلطة، لا خنجراً في ظهورهم.

 

 

لم يكن الرد على هذا البيان الخالي من الضمير بحاجة إلى بيانات مضادة، فقد جاء من أفواه النساء والأطفال في المعسكرات، الذين أعلنوا بعزة وكبرياء أنهم باقون في مدينتهم، رافضين مغادرتها إلى حيث يسكن القاتل. قالوها بصوت واحد: “لن نغادر حتى ينكسر الحصار وتتوقف المليشيا عن قتلنا”.

هذا الصوت هو ما يجب أن يُسمع، لا بيانات المرتزقة.

 

 

رغم هول الكارثة وتدفق الصور والفيديوهات التي توثق المجازر والانتهاكات، يلتزم المجتمع الدولي صمتًا مشينًا، لا يليق بقيم العدالة وحقوق الإنسان التي يتشدق بها في كل المحافل. لم تصدر إدانة واضحة من القوى الكبرى، ولم تُفرض عقوبات حقيقية على قادة المليشيا، ولم تُفتح حتى الآن تحقيقات دولية شفافة حول جرائم الإبادة الجماعية، بل يُترك المدنيون ليواجهوا الموت المحتم وحدهم.

أما الإقليم، فقد وقف متفرجًا، بل إن بعض دوله كانت وما زالت مستودع دعم للمليشيا بالوقود والعتاد والتغطية السياسية، مما يجعلهم شركاء في الجريمة بصمتهم أو بمدّهم لآلة القتل بأسباب البقاء.

 

 

في المقابل، ظل الشارع السوداني وفيًا لمبادئه، رافضًا للقتل والتشريد، ومدركًا لحقيقة ما يجري خلف الأقنعة الزائفة. فقد خرجت بيانات من كيانات سياسية ومدنية، وأصوات وطنية ومنظمات حقوقية، تندد بموقف الهادي إدريس والطاهر حجر، وتعتبرهم خونة لقضية الثورة لقد فهم الناس جيدًا أن من يبرر القتل لا يمكنه أن يبني وطنًا، وأن من يهادن المليشيا لا يمكنه الحديث عن الديمقراطية، وأن لا شرعية لمن صافح القاتل وصمت عن دم الضحية.

 

 

في نهاية المطاف، سيكتب التاريخ أن الهادي إدريس والطاهر حجر لم يكونا أكثر من ظل قاتل، وأن من أراق الدم وتاجر به سيُحاكم، سواء اليوم أو غداً. ولن يكون مصير من برر وغطّى الجرائم أقل سوءاً من منفذيها. سيظل أبناء الفاشر وشهداء الجنينة وأصوات النساء في المعسكرات، شهود عدل على هذا الزمن القبيح.