الترتيبات الأمنية وضرورة دمج قوات الحركات المسلحة

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

لطالما شكّل بند الترتيبات الأمنية في اتفاقيات السلام السودانية محورًا حيويًا ومحل نزاع وتأجيل، رغم كونه أساسًا لأي استقرار دائم. فمن اتفاقية أبوجا (2006) إلى الدوحة (2011)، مرورًا باتفاق جوبا (2020)، ظل هذا البند عالقًا بين النصوص الجميلة والواقع المرير الذي يزداد تعقيدًا بمرور الزمن كأنما هناك جهة تريد الحيلولة دون إنفاذ هذا البند

 

 

لماذا بات بند الترتيبات الأمنية ضرورة لا تحتمل التأجيل؟

 

وجود قوات مسلحة خارجة عن السيطرة النظامية للدولة، مهما كانت دوافعها ونبل مقاصدها أو خلفياتها الوطنية، يشكّل تهديدًا صريحًا لوحدة البلاد وسلامة شعبها. فهذه القوات في نظر القانون والسياسة تظل مليشيات، حتى وإن حملت شعارات وطنية، وأدت أدوار مهمة في مسيرة البلاد خاصة خلال حرب الكرامة ما لم تخضع لتراتبية عسكرية موحدة تحت مظلة القوات النظامية. وهذا الإهمال المستمر لبند الترتيبات الأمنية يغذي مشاعر النفور والجفوة بين أبناء الوطن، ويضعف من فرص بناء الثقة المتبادلة الضرورية لأي مشروع وطني جامع لأنها تحت إمرة أشخاص ومحكومة بامزجة قادتها خاصة أن هؤلاء القادة سواء كانوا من دارفور أو الوسط أو الشرق كثيراً ما يخرجون عن النص في تصريحاتهم مما يخلقوا بلبلة وكثير من الجدل وهذا ما يعضد خط الانفصاليين

 

 

 

ماذا قالت الاتفاقيات؟

 

 

اتفاقية أبوجا (2006):

نصت على وقف دائم لإطلاق النار.

تجميع قوات الحركات في مناطق محددة تحت إشراف الاتحاد الإفريقي.

دمج جزء من مقاتلي الحركات في الجيش والشرطة، مع التركيز على نزع سلاح المليشيات (لا سيما مليشيا الجنجويد).

تأسيس برامج لإعادة الدمج والتسريح (DDR).

وكان نص بند دمج القوات صريحًا:

إذ تقول تدمج عناصر الحركات المسلحة المؤهلة في القوات المسلحة السودانية، وقوات الشرطة، وجهاز الأمن الوطني، وفقًا لمعايير مهنية معترف بها إلا أن هذه البنود لم تُنفذ بالكامل، مما أبقى على حالة السيولة الأمنية دون معالجة حقيقية.

 

 

اتفاقية الدوحة (2011):

ركزت على إنشاء لجنة مشتركة لمراقبة الترتيبات الأمنية.

دعت إلى دمج مقاتلي الحركات الراغبين في الانضمام إلى القوات النظامية.

توفير برامج للتسريح وإعادة الإدماج لمن لا يدمجون.

تحسين الشرطة لتوفير الأمن المحلي، خصوصًا في دارفور.

ونص الدمج كان أكثر تحديدًا: إذ يقول تدمج قوات الحركات المسلحة تدريجيًا وفقًا لخطط متفق عليها، تراعي الحاجة لبناء قوات نظامية موحدة ومتنوعة تمثل جميع أبناء دارفور ومع ذلك، لم يحدث تقدم يُذكر في التنفيذ، مما أبقى الحركات تحتفظ بسلاحها وقواتها بشكل شبه مستقل.

 

 

 

اتفاقية جوبا (2020)

جاءت أكثر تفصيلًا وواقعية، حيث نصت على إنشاء قوة مشتركة من الجيش والحركات لحفظ الأمن، خاصة في دارفور والمناطق المتأثرة بالحرب.

وضع جدول زمني لدمج القوات خلال فترة انتقالية.

إصلاح المؤسسات الأمنية بالكامل لبناء جيش قومي موحد خاضع للسلطة المدنية.

نزع سلاح المليشيات وتسريح القوات غير المدمجة.

آليات رقابة دولية ومحلية لضمان التنفيذ كما نص بند الدمج في جوبا بوضوح على تدمج قوات الحركات المسلحة تدريجيًا وفق معايير مهنية، لضمان بناء جيش وطني موحد يمثل كافة مكونات الشعب السوداني ويخضع للسلطة المدنية الديمقراطية

وتميزت جوبا بأنها ربطت لأول مرة إصلاح القطاع الأمني ببناء الدولة المدنية الحديثة، إلا أن تطبيق البنود واجه عقبات جسيمة بسبب غياب الإرادة السياسية وضعف التمويل.

 

 

الإشكاليات المتراكمة بسبب عدم التنفيذ

 

 

عدم تنفيذ هذه البنود قاد إلى حالة من الفوضى الأمنية والسياسية

وخلق بيئة خصبة لنشوء مغالطات على وسائل التواصل الإجتماعي اتخذها البعض لتدعيم موقفه المبنى على فصل دارفور مثلا عبد الرحمن عمسيب قاد خطاب انفصالي في ظل البيئة خصبة لمثل هذه الخطابات المبنية على الكراهية والعرق والقبيلة مما أضعف هيبة الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية.

غذى المخاوف المشروعة من تكرار سيناريو (قوات الدعم السريع) عبر تحول قوات الحركات إلى كيانات موازية خارج السيطرة الرسمية زاد من حدة الاستقطاب، حتى أصبح توصيف هذه القوات بـ(المليشيات) كافيًا لإثارة الغضب السياسي والإعلامي، رغم أن التوصيف دقيق من الناحية القانونية والواقعية بعض مؤيدي هذه القوات يبررون وجودها بضرورات المرحلة، إلا أن المخاوف تظل حاضرة، لأن التجربة السودانية مع المليشيات علمتنا أن السلاح خارج الدولة مهما كانت نواياه سليمة ، يتحول سريعًا إلى تهديد والدليل أن حميدتي لم يكن يصرح بنواياه

 

الحل الحقيقي هو تطبيق صارم لبند الترتيبات الأمنية

 

 

لا حل لأزمة تعدد الجيوش والمليشيات إلا عبر تنفيذ بند الترتيبات الأمنية كاملاً، بكل نصوصه ومراحله

دمج كل القوات المسلحة خارج إطار الدولة في القوات النظامية وفق معايير مهنية صارمة.

تسريح وإعادة دمج من لا يتم قبوله في المؤسسات النظامية.

إصلاح شامل للمؤسسات العسكرية والأمنية، بما يضمن قوميتها وحيادها واستقلالها عن الانتماءات الضيقة.

بغير ذلك، ستبقى البلاد رهينة حالة من الفوضى المستدامة، وستظل المخاوف تتجدد، لأن من لدغته الأفاعي لا يثق بسهولة في ظلال الحبال.

 

ختامًا

 

إنفاذ بند الترتيبات الأمنية ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لإنقاذ السودان من الانهيار النهائي. فما لم تتوحد البندقية تحت راية دولة مدنية ديمقراطية، سيظل الوطن يدفع ثمن التشرذم والاحتراب.

لقد آن أوان الالتزام الفعلي لا القولي، فالوطن أكبر من كل الكيانات، وأعظم من كل المصالح الضيقة.