العفو العام في السودان لماذا يُستثنى الدكتور محمد العاجب؟   علي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

بقلم: علي منصور حسب الله

 

منذ اندلاع الأزمة السودانية الأخيرة ظل الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة يبعث بإشارات واضحة حاسمة ذات مضامين وطنية عميقة تفيد بأن أبواب الوطن ما تزال مفتوحة لكل من يُغَلِّب صوت العقل وينأى بنفسه عن الاصطفاف خلف السلاح ويختار طريق السلام والمصالحة.

وقد تجسّد هذا التوجه الوطني في قرارات العفو المتكررة التي شملت عددًا من الشخصيات التي كانت في وقتٍ ما محسوبة على قوات مليشيا الدعم السريع خصوصًا أولئك المنتمين إلى المجلس الاستشاري لقائد هذه المليشيا ممن أعلنوا انشقاقهم وقرروا الانضمام إلى صف الوطن لا الميليشيا

ومن بين من استفادوا من هذه القرارات نذكر على سبيل المثال مودببو إبراهيم بابجي رئيس دائرة الحكم والإدارة بالمجلس الاستشاري والأمين العام المؤسس للإدارات المدنية في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع والشيخ محمد أحمد عليش رئيس الدائرة القانونية بالمجلس الاستشاري، ورئيس تحالف (قمم) بولاية الخرطوم وعبد العظيم سليم محمد علي عضو المجلس الاستشاري ورئيس الدائرة القانونية في تحالف (قمم) وعباس محمد عبد الباقي عضو المجلس الاستشاري ومستشار محلية شرق النيل وبابكر خليفة محمد عضو المجلس الاستشاري والمستشار السياسي

هؤلاء وغيرهم ممن كانوا يشغلون مواقع مؤثرة ومتقدمة داخل المنظومة الاستشارية لقائد ميليشيا الدعم السريع جرى استقبالهم في مدينة بورتسودان وبعضهم اليوم يتحرك بحرية كاملة بعد أن تم احتواؤهم ضمن قرارات العفو في مشهد يعكس سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها الدولة ويعزز فرص المصالحة ولمّ الشمل الوطني

لكن في ظل هذا المشهد الإيجابي يظل سؤالٌ مشروع يُطرح بإلحاح لماذا لم يشمل العفو الدكتور محمد العاجب إسماعيل الصافي؟

هذا الرجل لم يُجبر على مغادرة مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع ولم يُعتقل أو يُلاحق بل اتخذ قراره بنفسه وبإرادته الحرة في توقيت بالغ الخطورة وغادر نيالا متجها إلى بورتسودان في لحظةٍ كان من الأسهل له وربما من الأجدى ماديًا أن يبقى في مكانه بل وأن يشارك في بناء كيان سياسي موازٍ (حكومة تأسيس) كانت الميليشيا تُعِدّ له العدة هناك

لقد كنا من أوائل من تناولوا تقاطعات الدكتور العاجب مع ميليشيا الدعم السريع حينما وردتنا معلومات حول تلك العلاقة ولم نُجامل في ذلك لكن إذا كنا نؤمن بالعقلانية وبأن الوطن يتسع للجميع فإن موقف الدكتور العاجب الأخير يستحق أن يُثمَّن لا أن يُدان

إن خروجه من تلك الدائرة الضيقة في توقيت مفصلي يُعدّ خطوة شجاعة تستوجب المراجعة خصوصًا أن موقفه يتسق تمامًا مع الدعوات التي أطلقها رئيس مجلس السيادة نفسه والتي تشجّع على العودة إلى حضن الوطن وما نخشاه اليوم هو أن يتحوّل العفو العام من مبدأ وطني إلى ممارسة انتقائية تُكافئ البعض وتُقصي البعض الآخر دون معايير موضوعية واضحة فهل العفو مخصص فقط لمن انشقوا بعد أن ضاقت بهم السبل؟ أم أنه يشمل كل من اختار العودة طوعًا وبكرامة في لحظة كان فيها ذلك القرار بمثابة مخاطرة شخصية؟ هل هو حكر على من تم الإعلان عنهم؟ أم أن العفو مبدأ يُفترض أن يُطبق بعدالة ومساواة؟ استثناء الدكتور محمد العاجب رغم رمزيته وموقفه يُشبه المفارقة التي وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

(لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وهذا التشبيه لا يُراد به القياس الحرفي وإنما التحذير من خطورة التمييز في العدالة حين يُعفى عن البعض لأسباب قد تكون سياسية أو اجتماعية أو جهوية ويُقصى آخرون دون تبرير إن العفو العام يجب أن يُفهم باعتباره خطوة لبناء وطن جديد لا مكان فيه للانتقام ولا للتصنيفات الضيقة بل تُقيّم فيه المواقف الصادقة والقرارات الشجاعة بغضّ النظر عن الخلفيات السابقة ومن هذا المنطلق فإننا ندعو إلى مراجعة قرار استثناء الدكتور محمد العاجب وضمه إلى قائمة المشمولين بالعفو ليس فقط وفاءً للعدالة بل تعزيزًا للثقة وتحفيزًا لمن يفكرون في اتخاذ ذات الخطوة إن عودة العاجب كانت ستفتح الباب على مصراعيه أمام العديد من القيادات في جنوب دارفور وغيرها من المناطق ممن كانوا بصدد اتخاذ قرار مشابه لكن توقيفه المفاجئ دفعهم إلى التراجع وربما إعادة حساباتهم إن أردنا فعلاً تحفيز الانشقاقات الحقيقية وتشجيع العودة إلى الدولة فيجب أن تكون رسائلنا واضحة ومواقفنا عادلة

وإلا… فليخبرونا بوضوح لمن العفو إذًا؟