صراعات الربوت ال(دون كيشوتية)     حميدتي… حينما يتحدث الجهل بمنطق الفضل والخيانةعلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

في مشهد جديد من مشاهد التناقض والفوقية المصطنعة خرج الربوت محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليوجه سهام النقد والشتائم والاتهامات نحو قادة الحركات المسلحة التي وقّعت على اتفاق جوبا مدعيًا أنه هو من أتى بهم وهو من فرض وجودهم بل وذهب إلى حد القول إنه كان يدفع لهم (150 مليار جنيه شهريًا) من خزانة الدعم السريع لتسيير أعباء جيوش الحركات المسلحة وكأن هذه البلاد بلا مؤسسات ولا قوانين وكأن خزانة الدولة أصبحت وقفًا على مزاجه ومشيئته ! فمن هو هذا الربوت المسمّى بمحمد حمدان دقلو؟ أليس حتى عام 2003 كان مجرد أجير يعمل كخبير طرق بين دارفور وليبيا، وبين دارفور ومصر؟ رغم محاولاته تزوير تاريخه بالادعاء أنه كان (تاجرًا) إلا أن الحقيقة المؤكدة أنه كان يعمل لصالح أسرة (أبوصفيطة) بالفاشر ذات الجذور الليبية حتى ماضيه وحاضره مرتبطان دومًا بالأجنبي والأدهى من كل ذلك أن الرجل يُصرّ على تكرار هذه الأسطوانة الإنشائية التي يظن بها أنه يمتلك الحقيقة المطلقة فيصف الآخرين بالمرتزقة ويطعن في دوافعهم ويتهمهم بالخيانة لأنه كما يتخيل هو من منحهم شرعية الحضور في الداخل وهو من أخرجهم من (الصحاري والسهول والوديان !) فهل هذه قراءة سياسية؟ أم غرور سلطة أعمت أصحابها عن التمييز بين المصلحة الوطنية والتملك الشخصي؟ أم لوثة شيطانية جعلت الربوت يهذي بأي كلام والسلام؟اتفاق جوبا لسلام السودان لم يُوقّع بين الحركات المسلحة وحميدتي كشخص بل تم توقيعه بين الجبهة الثورية التي تمثل هذه الحركات وحكومة السودان الانتقالية عبر وفد رسمي له مرجعية سيادية ومؤسسية وشارك فيه ممثلون عن مجلس السيادة وكان رئيس وفد التفاوض هو نائب رئيس مجلس السيادة آنذاك أي أن حميدتي كان مجرد جزء من وفد يمثل الدولة لا المانح الأوحد للسلام كما يدّعي فإن كان يتوهم أنه (صاحب الاتفاق) فليقم بإلغائه فورًا وليجرب حشد دعم سياسي أو شعبي لهذا الإلغاء لكن الواقع يُثبت أن اتفاق جوبا لم يكن منحة شخصية بل نتاج عملية تفاوض معقدة ومتشعبة شارك فيها وسطاء دوليون وإقليميون ومكونات وطنية والدولة حينما ترسل وفدًا وتوقّع اتفاقًا فحتى لو مات جميع أفراد الوفد أثناء عودتهم لا يعني ذلك أن الاتفاق قد مات! فهل يفهم هذا الربوت المسمّى بمحمد حمدان دقلو هذه البديهيات؟ حديث حميدتي عن الحركات المسلحة بلغة الازدراء والاحتقار (مرتزقة يسعون للسلطة والمال لا يمثلون قضايا حقيقية) هو تحقير مباشر لنضال مجتمعات بأكملها عانت من التهميش والإقصاء لعقود فالحركات لم تنشأ عبثًا ولم تحمِل السلاح إلا بعد استنفاد كل السبل السياسية وهذه شهادة يدونها التاريخ لا شهادة يمنحها حميدتي أو يسحبها متى شاء وحينما كانت هذه الحركات تقاتل الحكومة أكرر الحكومة وليس الشعب كان حميدتي وعلي كوشيب وزومباهارات وزبانياتهم يقاتلون في صف النظام وكان البشير يطلق عليه اسم (حمايتي) كان مجرد كلب صيد يُطلق لافتراس الفريسة وكان يرتكب الانتهاكات الجسيمة يهجّر المواطنين يغيّر أسماء المناطق ويقوم بأكبر عملية تغيير ديمغرافي عرفتها البلاد فالمقارنة بين انتهاكات قواته وبين التزام الحركات المسلحة خصوصًا في بدايات دخولها للمدن تكشف الفارق الأخلاقي بين مشروع سياسي واضح المعالم ومليشيا مسلحة استسهلت القتل والنهب والاغتصاب والاضطهاد العرقي والتهجير القسري

سؤال مركزي لا يمكن تجاوزه من أين أتى حميدتي بهذه الأموال الطائلة؟ وما هي الصفة القانونية التي تتيح له أن يدفع من (خزينة الدعم السريع؟) وهل هذه الخزينة جزء من مالية الدولة أم دولة داخل الدولة؟ تصريحاته بخصوص الأموال تكشف حجم الفساد المؤسسي حيث صار الدعم السريع كيانًا ماليًا مستقلًا يملك موازنته الخاصة المستخرجة من الذهب خصوصًا من جبل عامر ومناجم الردوم وغيرها وهذا المال لم يكن ناتجًا عن استثمارات أو ضرائب قانونية بل عن إتاوات غير شرعية وكارِتات مفروضة على المعدنين والمواطنين في واحدة من أسوأ أشكال استغلال النفوذ ثم هو يتحدث عن قانون الدعم السريع وهذا القانون اتبعه للقوات المسلحة وليس لعمودية أولاد منصور في أم القرى

وإذا اعتبر حميدتي أن رفض دكتور جبريل والمارشال مناوي الانضمام إليه خيانة فهو بذلك يكشف جهلًا سياسيًا مركبًا لأن هؤلاء لم يوقعوا معه شخصيًا ولم يكونوا يومًا تابعين له وإن اختلفوا مع سياساته وعلاقاته وعمالته فهذا لا يجعلهم (خونة) بل أصحاب موقف وهو ما يفتقر إليه حميدتي الذي غدر بالجميع فقد غدر بـ(شيخه) موسى هلال الذي رعاه واحتضنه وجعل منه قائدًا

ثم غدر ب(البشير) الذي رقّاه ووفر له المال والسلاح وغدر ب(البرهان) الذي احتضنه بعد الثورة

فأي حديث عن الخيانة من رجل هذا تاريخه؟

كيف لمن لا يقرأ ولا يكتب ولم يتلقّ أي تعليم نظامي أن ينصّب نفسه ناقدًا ومؤرخًا وقائدًا للوطن؟ النصر الذي يتفاخر به في قوز دنقو لم يكن إلا نتاجًا لخيانة فقد قام القيادي الهالك حسن محمد عبد الله الشهير ب (الترابي) بخيانة رفاقه في حركة العدل والمساواة وأفشى خط سير القوة وشارك في نصب الكمين واختيار الموقع وتحديد ساعة الصفر مما أتاح للمليشيا أن تغدر بالقوة المهاجمة في كمين دموي فهل يُبنى المجد بالخيانة؟ وهل النصر الذي يقوم على الغدر والتآمر يستحق الفخر؟

تاريخه العسكري ليس سلسلة من الانتصارات النظيفة بل مجازر بحق المدنيين والنساء والأطفال يتحدث الربوت حميدتي صباح مساء عن (محاربته للكيزان) لكنه نسي أن الدعم السريع نشأ وترعرع في أحضانهم وتم تقنينه بقانون أصدره برلمانهم عام 2017 ومنح قواته حصانة واستقلالًا ماليًا وعسكريًا بينما تم حلّ كل التكوينات المرتبطة بهم مثل الدفاع الشعبي والأمن الشعبي والشرطة الشعبية وهيئة العمليات بجهاز الأمن كلها تم حلّها وبقي الدعم السريع بل وتحوّل قائده إلى نائب لرئيس مجلس السيادة في حكومة شكلها من يدّعي أنهم (الكيزان) أنفسهم! فهل هناك نفاق سياسي أوضح من هذا؟هل يؤمن الرجل ببعض قوانين الكيزان ويكفر ببعضها الآخر؟ إذا سقط برلمانهم وحُلّ حزبهم وألغيت قوانينهم فبأي شرعية يستمر هو؟ أي قانون أو مؤسسة تمنح حميدتي حق قيادة حرب ضد الدولة وجمع المال والتحكم في ثروات البلاد؟ أم أن ما يجري هو مجرد قرصنة سياسية تستند إلى السلاح وليس إلى الشرعية؟ من أنشأ هذا المليشيا؟ من سلّحها؟ من رقّى قطاع طرق ومهربين وتجار مخدرات إلى رتب عسكرية عليا؟

أليس هو الكوز عمر البشير الذي جعله من أجير يسوق الإبل إلى (قائد مليشيا) ثم (رجل دولة ؟) ولعل ماضيه يطارده لذلك يحاول أن يتجمل بكل السبل يحب أن يقدّم نفسه دائمًا كرجل (وديع طيب ومسالم) لكنه مظلوم رجل في ثوب المصلح وفي ثوب الصادق

لكن لماذا لا يخاطب جرحى مليشيته بعبارات العطف؟ هل لم يسمع أنينهم؟ لماذا لا يلتفت إلى آلامهم؟ ولا يمد لهم يد العلاج؟ بعضهم كما ظهر في فيديوهات موثقة تُرك ليموت والدود يأكل جسده دون أدنى رعاية ولا حتى زيارات رمزية من قيادته فأين ذهبت تلك المليارات التي كان يدّعي دفعها؟ وأين الوفاء لهؤلاء الذين استخدمهم وقادهم إلى حروب عبثية ثم تخلّى عنهم كما يُرمى الحطب بعد أن تنطفئ النار؟ إن تمثيل دور الضحية وادعاء البساطة والنية الطيبة لا يصمد أمام سيل الأدلة على الفساد والنفوذ غير المشروع والتضليل الإعلامي والدماء التي سالت بلا مبرر هذه البلاد ليست مزرعة ورثها عن أجداده

وليست شركة خاصة يديرها بميزانية مستقلة

وليست ضيعة يوزّع فيها الولاء والبركات والمال على من يبايعه أي شرعية لقوة أنشأها نظام ديكتاتوري؟ موّلت نفسها من الذهب والجبايات المفروضة بالقوة؟ تم تقنين وجودها عبر برلمان زائل؟ واستمر وجودها بعد زوال النظام الذي أنجبها؟ أليس هذا خللًا قانونيًا وأخلاقيًا وسياديًا؟ وهل نلوم الآخرين إذا تشكّكوا في أن ما يجري ليس مشروعًا سياسيًا بل احتلال داخلي تقوده مليشيا مسلحة بواجهة وطنية مدفوعة بأموال إماراتية؟ ومرتزقة عابرة القارات والحدود الخطير في حديث الربوت حميدتي ليس فقط التناقض أو الغرور أو الجهل بل هذا الإصرار الغريب على احتكار الفضل وتوزيع الوطنية وتخوين الآخرين وكأن الثورة قامت عليه وكأن التاريخ كُتب باسمه وكأن الشعب لا ذاكرة له لكن هو ومعه من يصفّقون له من خريجي الجامعات والمثقفين الانتهازيين سيندمون حين تصحو هذه البلاد تمامًا وتدرك أن دماءها نُهبت وأموالها سُرقت وثرواتها أُهدرت باسم الوطنية الكذوب ومن قِبَل (قائد) لم يُكمل تعليمه الأساسي لكنه صار بقدرة المال والسلاح يحدّد من هو الوطني ومن هو الخائن التاريخ لا يُمحى والوعي لا يموت

وما بُني على الخيانة والغدر والذهب المنهوب لا يمكن أن يصمد طويلًا حميدتي ليس صانع سلام بل وريث حرب ومهرّب ذهب وناقل سلاح وسارق فضل وعميل إماراتي وزعيم عنصري يسعى لتوطيد أركان دولة أسرية عائلية

ومهما استمر مشهد التزييف فالحقيقة أقوى

والشعوب لا تنسى