(1)
يقول الصحفي والكاتب المسرحي الفلسطيني القاضي إبراهيم جابر إبراهيم:
“حيثما سمعتَ صوت صراخ الأخلاق يرتفعُ على باب البيت، فادخل سريعاً لتتفقد الجريمة التي تحدث في الداخل!”
يبدو أن العميد بحري (م) صلاح الدين محمد أحمد كرار، عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ، يصرخ اليوم ليخفي آثار ما ارتكبته لجنته الاقتصادية في بواكير عهد الإنقاذ من فظائع وجرائم. كان الرجل يومها ملء السمع والبصر، واشتهر بتصريحه الشهير:
“لو ما جينا كان الدولار بقى بـ(20) جنيه!”
وذلك في وقت كان فيه سعر الدولار (12) جنيهًا فقط. لكن المفارقة الساخرة أن الدولار لم يتوقف عند هذا الحد، بل واصل الصعود حتى بلغ (47,000) جنيه عند سقوط الإنقاذ، بعد أن فقد الجنيه السوداني ثلاثة أصفار لإخفاء ما خسره من قيمة سوقية.
مرت مياه كثيرة تحت الجسر، قبل أن تجرف كرار خارج منظومة السلطة حتى قبل سقوط الإنقاذ نفسه. لكنه اليوم يحاول تلميع صورته وكأنه لم يكن أحد قادة انقلاب 1989م، ولم يكن عضوًا في مجلس قيادة الثورة! تقلد الرجل عدة مناصب: وزير النقل والمواصلات (1991-1993)، وزير الطاقة والتعدين (1993-1995)، وزير رئاسة مجلس الوزراء (1995-1998)، وسفير السودان في البحرين (1998-2003).
لكن أخطر أدواره على الإطلاق كان في السنة الأولى للإنقاذ، حينما ترأس اللجنة الاقتصادية التابعة للمجلس العسكري، اللجنة التي لم تكتفِ بتدمير الاقتصاد، بل امتدت أياديها إلى إزهاق أرواح شباب في مقتبل العمر، تحت دعاوى واهية لا تستند إلى أي منطق أو عدالة!
(2)
اليوم، رغم هذا الإرث المثقل بالدماء والفساد، يظل صلاح كرار حرًا طليقًا، يطلق تسجيلاته الصوتية الخالية من أي مضمون سوى الإساءة وانتقاء خصومه بعنصرية واضحة. وإلا، كيف نفسر استهدافه المتكرر للفريق أول شمس الدين كباشي؟ ولماذا تحول الآن إلى الهجوم على د. جبريل إبراهيم؟ ومن سيكون هدفه القادم؟
يبدو أن محاكمة مدبري انقلاب 1989م كانت انتقائية، فلم ترَ صلاح كرار ولم تسمع به! وإلا، كيف بقي هذا الرجل طليقًا بينما زُج بشركائه في قفص الاتهام؟ أليس هو أحد أعضاء الانقلاب؟ أليس هو من ترأس اللجنة الاقتصادية التي نفذت أبشع القرارات وأكثرها قسوة؟
اللجنة التي كان صلاح كرار رئيسها هي ذاتها التي تسببت في:
إعدام الطالب مجدي محجوب محمد أحمد، في واحدة من أسوأ صور الظلم، بسبب مبلغ من المال لم يكن سوى إرث عائلي مشروع.
إعدام الطيار جرجس القس بسطوس ليلة عيد الميلاد، في رسالة دموية قاسية تجاه المجتمع المسيحي.
إعدام الطالب أركانجلو، الذي كان في طريقه للسفر إلى يوغندا حيث يدرس بجامعة ماكريري، لمجرد حيازته عملة أجنبية!
صلاح كرار، الذي يملك اليوم وقتًا لتسجيلاته الصوتية، عليه أن يجيب الشعب السوداني:
لماذا أُعدم مجدي محجوب في يوم الذكرى الـ34 لإعلان الاستقلال؟
لماذا أُعدم جرجس القس بسطوس ليلة الكريسماس؟
لماذا أُعدم ضباط حركة رمضان 1990م قبيل عيد الفطر بيومين؟
ما الحكمة في اختيار هذه المناسبات الدينية والوطنية لسفك الدماء؟
(3)
صلاح كرار يتحدث اليوم عن الاقتصاد والسياسة وكأنه خبير! لكنه لم يكن سوى رئيس لجنة اقتصادية تسببت في دمار الاقتصاد الوطني. كيف له أن يتحدث عن العدالة بينما هو أحد مهندسي القوانين الظالمة التي شرّدت وأفقرت السودانيين؟ كيف ظل حرًا بينما يُحاكم شركاؤه اليوم على انقلاب 1989م؟
أي عدالة هذه التي تتركه دون مساءلة؟
أما محاولته تصوير نفسه كمدافع عن المصلحة العامة، فهي لا تعدو كونها محاولة يائسة لغسل تاريخه الأسود. فما الذي يجعله اليوم ينصب نفسه وصيًا على السياسة؟ ومن الذي خوّله ليقرر من يكون رئيس الوزراء أو وزير المالية؟
يهاجم د. جبريل إبراهيم بعنصرية واضحة، متوهمًا أنه يملك سلطة تقرير من يحكم ومن يُستبعد من المشهد السياسي.
لكن الحقيقة التي لا يدركها صلاح كرار أن العدالة لا تسقط بالتقادم، وأن محاولاته للظهور من جديد لن تمحو سجلّه الحافل بالجرائم. فهل يظن أن ذاكرة السودانيين قصيرة إلى هذا الحد؟!