حين كتب سلاح الإشارة فصلًا جديدًا في سفر البطولة السودانية

ظل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

 

في العاصمة الخرطوم، بعيدًا عن عدسات الإعلام وضجيج العناوين، كُتبت حكاية لم تُسطّر بالحبر، بل بالدم والعرق، في دفتر الوطن. هناك، في سلاح الإشارة، كُتبت ملحمة لا تقل شأنًا عن أعظم ما خطّه التاريخ من تضحيات. رجالٌ لم تلد النساء مثلهم في الشجاعة، جابوا دروب النار بقلوب من نور، وأرواحٍ صلبة كالصخر، ثابتة كجبال السودان.

 

لم تكن الحكاية مجرد خبر عابر، بل صمودًا امتد لعامين كاملين من الحصار والهجمات الضارية، وصلت خلالها المعارك إلى مسافة خمسين مترًا فقط من خطوط الدفاع. ورغم ذلك، لم تهتز قامة، ولم تنحنِ هامة. تقاسم الجنود والضباط الخبز اليابس كما تقاسموا الخطر والموت، وقدّموا أرواحهم ودماءهم قربانًا للشعب والوطن، وهي أغلى ما يملكون.

 

جاءوا من شتى بقاع السودان ليسطّروا ملحمة تاريخية:

من أم درمان شارع الدومة جاء العميد الركن هاني محمد إسماعيل، وجاء العميد الركن خالد الباهي، والشهيد العميد الركن عبد العظيم، والشهيد العقيد الركن محمد مدني ابن الجزيرة، والشهيد المقدم الركن عثمان شعيب، والمساعد الزيبق ابن الإشارة وجبال النوبة، وابن قريضة أم ضل اللواء الركن عبد العزيز محمد أبكر، والعميد الركن المهندس السر آدم السليك ابن نيالا البحير.

قادة حملوا الوطن في صدورهم، وحوّلوا مقارهم إلى قلاع للصمود، وضربوا أروع أمثلة القيادة والبذل.

 

لم تكن معركتهم معركة بندقية فقط، بل معركة كرامة وهوية، معركة الدفاع عن فكرة السودان الحر، الوطن المتماسك المتين.

سلاح الإشارة لم يكن مجرد وحدة عسكرية، بل صار رمزًا وطنيًا، اسمًا يتردد في البيوت، وتمائم تتزين بها جيد الفتيات، وتنهل منها الأمهات معنى الصبر والفخر.

 

تلك القصة، التي تكسّرت فيها هجمات الميليشيا على صلابة الرجال، تصلح لفيلم من طراز الرفعة والدهشة؛ لا ليبكي الناس، بل ليفتخروا.

قصفت الميليشيا مقراتهم بكل ما تملكه من سلاح ثقيل، لكنهم لم ينكسروا، بل ثبتوا، وتحوّلوا إلى جسر عبور نحو فجرٍ جديد.

 

إنهم جنود لا يشبهون إلا أنفسهم، امتشقوا الأمل سلاحًا، وواجهوا العتمة بالحقيقة، وبالرصيد المتين من الانتماء. لم يتراجعوا، ولم يستسلموا، لأنهم ببساطة أبناء هذا الوطن… ترابه من دمهم، وأمانه من قسمهم.

 

حين يُكتب تاريخ السودان المعاصر، لن تُكتب صفحاته إلا بأسماء هؤلاء الأبطال.

أولئك الذين لم يفرغوا قلوبهم كي يموتوا، بل كي تبقى حكايتهم حيّة في أعالي السماء، مثل زهرةٍ تنبت من دم، كأرزٍ مبارك، أو شمسٍ لا تغيب.

 

هم الذين أثبتوا أن لا سلام يُكتب إلا بمدادٍ من الدم.

وقفوا على أبواب البيوت والقلوب والكلمات؛ فكلما سقط باب، استُشهد ضوء، وكلما اشتد الظلام، أوقدوا نورهم في العتمة.

قاوموا الإرهاب، وتصدّوا للطغيان، وكانوا جدار الصد، وسياج الكرامة.

 

ما سقطت يد أحدهم إلا لتكون جسرًا نحو وطن اليقظة، وما ارتجفت شفة، إلا لتردد قسمهم بأن العتمة لا تنتصر.

هناك، في سلاح الإشارة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فصاروا سيوفًا وورودًا، وصاروا السند والملاذ.

 

نشدّ على أياديكم، وننحني إجلالًا لكل جندي بطل، حامي الحدود، راعي الوطن، ورمز الوفاء.

نقولها بكل صدق: شكرًا لا تكفي، لكنها البداية.

وأنتم، يا رجال سلاح الإشارة، كنتم ظل الحراز… ثابتين، شامخين، واقفين على عتبة التاريخ، تصنعون المجد وتحمون الحلم السوداني.

 

 

هذا الوطن، الذي راهنوا على سقوطه، سيظل صامدًا بكم، لأنكم أنتم الشموخ والعزة، أنتم فرسان الزمن الصعب، أنتم اللغة التي لم تنكسر، والقصة التي لا تنتهي.