الاجتماعات السرية والشفافية المزعومة: من يملك الحقيقة؟ (2)

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

 

توالت ردود الأفعال على مقالي السابق بعنوان “الاجتماعات السرية والشفافية المزعومة: من يملك الحقيقة؟”، وتباينت الملاحظات بين مؤيد، ومتحفّظ، ورافض. ومع ذلك، ما زلت متمسكًا برأيي بأن الهجوم على الصحفية رشان أوشي لم يكن في محله؛ فالصحفي بطبيعته يسعى للسبق الصحفي والتميّز في النشر عن أقرانه. وبالتالي، لا تكمن المشكلة في الصحافة حين تنقل ما يُسرّب إليها، فهذا جزء من دورها، بل في الجهة التي تتعمد تسريب محاضر اجتماعات حكومية أو سياسية بصورة مجتزأة تخدم أجنداتها الخاصة. فالخطأ الأكبر ليس في النشر، بل في من سرّب، والطريقة التي تم بها التسريب.

 

وقد أوضح تصريح المارشال مني أركو مناوي أن ما نُشر من محضر الاجتماع لم يكن مجرد اجتزاء، بل تحريفًا متعمدًا غيّر المعنى والسياق. وكان ينبغي لهذا التصريح أن يفتح الباب أمام نقاشات وطنية مسؤولة، لأن التحريف يقود إلى تأويلات خاطئة وتأزيم متعمد. نحن هنا أمام ممارسة إعلامية موجهة، تسعى لانتزاع العبارات من سياقها لخلق عناوين مثيرة ومواقف عدائية، كما يُجتزأ قوله تعالى: “لا تقربوا الصلاة…” دون إتمام الآية: “…وأنتم سكارى.”، والنتيجة في الحالتين واحدة: خداع المتلقي وتشويه الحقيقة.

 

إن الهجوم على الصحافة وترك الجهة المسؤولة يُجسّد المثل الشعبي: “سابوا الحمار ومسكوا في البردعة”، وهو يعبّر عن العجز عن مواجهة الطرف الأقوى، فيُلقى اللوم على الأضعف. يُقال هذا المثل عندما يُظلم أحدهم، فيعجز عن الرد على من ظلمه، فيوجه غضبه نحو شخص آخر أضعف منه.

 

وإن كان من يستحق الشكر في هذا المشهد، فهم قادة الحركات الذين تصرفوا بحكمة ولم يردوا على التسريب بتسريب، رغم قدرتهم على ذلك. لم ينجرّوا إلى الأساليب الملتوية، ولم يقابلوا الإساءة بمثلها، وهذا يُحسب لهم أخلاقيًا وسياسيًا. فقيام البعض بنشر محاضر الاجتماعات، خاصة بعد تحريفها، يُعد خرقًا أخلاقيًا وقانونيًا في بيئة سياسية ناضجة. غير أن الواقع يُظهر أن بعض الجهات لا تزال تتعامل بمنطق الخصومة الإعلامية، لا منطق الشراكة الوطنية، وسط عجز واضح من قيادة الدولة عن حماية محاضر اجتماعاتها. والأسوأ من ذلك، ما كشفه مناوي بأن ما سُرّب قد حُرّف عمدًا بهدف شيطنة طرف محدد.

 

المشكلة لا تقتصر على التسريب نفسه، بل تمتد إلى هشاشة بيئة العمل السياسي، التي تجعل من السرية ستارًا هشًا يسهل خرقه. إذ تُدار الخلافات عبر الإعلام بدلًا من المؤسسات، ويُستخدم الإعلام كأداة للضرب “تحت الحزام” بدلاً من كونه وسيلة للتواصل مع الشعب. والسؤال الجوهري هنا: إذا كانت الدولة عاجزة عن حفظ سرية اجتماعات قياداتها، فلماذا لا تُفتح هذه الاجتماعات لوسائل الإعلام؟ لماذا لا نمارس الشفافية الحقيقية بدلاً من ترك المجال لتسريبات انتقائية تصنع “بطولات زائفة” وتشيطن أطرافًا دون غيرها؟

 

الشفافية لا تعني كشف الأسرار، بل تعني توزيع المعلومات بعدالة. وغياب هذه العدالة يعزز ثقافة “التسريب الانتقائي”، ويجعل الحقيقة سلعة تُباع وتُشترى وفقًا للمصالح. وفي هذه الحالة، يحق لكل طرف أن يشعر بأنه مستهدف، أو أن يسعى للدفاع عن نفسه في ساحة إعلامية غير متكافئة.

 

وعليه، فإن دعوتي لفتح الاجتماعات لوسائل الإعلام ليست إلا تعبيرًا عن حالة عجز حقيقية؛ لأن القيادة أعجز من أن تحمي محاضر اجتماعاتها، وأكثر عجزًا عن مواجهة خطر التحريف قبل حدوث التسريب. وكما قيل قديمًا: “آخر العلاج الكي”.

 

ثم إن طبيعة الاجتماعات تقتضي النقاش وتبادل وجهات النظر. من الطبيعي أن يتمسك كل طرف برأيه خلال المداولات، قبل أن يُتفق في النهاية على قرار جماعي. فلماذا تُستخدم العبارات التي قيلت في لحظة نقاش حي كوسيلة لتأليب الرأي العام؟ أليس من الأجدى الحكم على نتائج الاجتماعات لا على تفاصيل نقاشاتها؟ إن هذا الأسلوب في “اصطياد العبارات” يهدد جوهر التفاوض نفسه، ويحوّل كل اجتماع إلى فرصة جديدة للابتزاز أو التشويه.

 

وعلى جانب آخر، فإن تصوير الحركات المسلحة وكأنها الطرف الوحيد الذي “يخرج عن النص”، أو “يعرقل تشكيل الحكومة”، أو “يطمع في السلطة”، هو تبسيط مخل وخطاب انتقائي. ليس كل من يعبّر عن موقفه أو يتمسك بمطالبه يشكل تهديدًا للسلام أو التوافق الوطني. بل إن اتفاق جوبا للسلام، رغم تعثره، أوقف نزيف الحرب وجمع الفرقاء على أرضية مشتركة. أما من رفضوا الاتفاق منذ لحظة توقيعه، فلم يكن دافعهم مصلحة الوطن كما يزعمون، بل رغبة في الإقصاء والهيمنة ورفض الآخر سياسيًا واجتماعيًا.

 

ومن المفارقات أن موقف قوى الحرية والتغيير من هذه الحركات، في وقت سابق، لم يكن مختلفًا كثيرًا. ففي يوليو 2019، وبعد توقيعها على “الوثيقة الدستورية”، اعترضت الحركات المسلحة المنضوية تحت لواء “الجبهة الثورية” على استبعاد قضايا محورية، وطالبت بتعديل الاتفاق. وعلى الرغم من محادثات أديس أبابا، رفضت “قحت” ما تم التوصل إليه هناك، ثم جاء اجتماع القاهرة في أغسطس 2019 لمناقشة رغبة الجبهة الثورية في إدراج مخرجات أديس، وذكر اسمها في النص النهائي، إلا أن “قحت” رفضت ذلك، واتهمت الحركات بالسعي للمحاصصة. وتم حينها تحريك مواكب شبابية مضللة لمهاجمة الحركات واتهامها بالارتزاق والطمع.

 

لكن، ماذا حدث لاحقًا؟ تم اقتسام السلطة فعليًا بالمحاصصة، وهو ما اعترف به عمر الدقير لاحقًا، واصفًا إياه بـ”الخطأ الكارثي”. واليوم، نواجه نفس الاتهامات ونفس الحملات، ولكن بأسلوب جديد: تسريبات محاضر الاجتماعات – بعد تحريفها – لشيطنة ذات الأطراف.

 

في الختام، أقول: إن الشفافية لا تُنال بالتسريبات، بل تُبنى على الثقة، وتُرسّخ بالمؤسسات القوية. أما ما نشهده من استهداف إعلامي غير نزيه تحت شعار “كشف الحقائق”، فليس سوى فوضى إضافية وتشويش على الرأي العام. فـ”من يملك الحقيقة؟” ليس من يجتزئها ويلقي بها في وجوه الناس، بل من يصونها ويعرضها كاملة، في موضعها الصحيح، دون تحريف أو انتقاء.