ضل الحراز
بقلم: علي منصور حسب الله
في لحظة موجعة ترجّل فارسٌ من فرسان القيم والعطاء وانطفأت شمعةٌ كانت تضيء دروب أهلها ومجتمعها… رحلت عن دنيانا الفانية الأستاذة فاطمة محمد الفضل آدم رجال بعد صراعٍ طويل مع المرض اختارت أن تخوضه بصبر المؤمنات وهدوء العارفات رحلت جسداً لكنها باقية في الوجدان حية في الذاكرة متوهجة في ضمائر من عرفوها وعاشوا معها وعايشوا عطاءها برحيلها طُويت صفحة من أنصع صفحات النساء الرائدات في السودان صفحة خطّتها فاطمة بالحبر النبيل حبر المعلمة والبرلمانية والعمدة والإنسانة فاطمة لم تكن امرأة عابرة في ذاكرة المجتمع ولم تكن رقماً مضافاً في قوائم المناصب أو البرلمانات أو الإدارات بل كانت ظاهرة استثنائية ونموذجاً متفرداً للمرأة السودانية القوية الواعية المؤمنة بقضايا مجتمعها والرافضة أن تبقى خلف الصفوف من قاعات المدارس التي انطلقت منها مُعلِّمة تبذر القيم وتنثر المعرفة وتُخرج أجيالاً تعرف واجباتها قبل حقوقها إلى ميادين العمل العام التي شهدت فيها وقفاتها الشامخة ومواقفها النبيلة كانت فاطمة تسير دوماً حيث يناديها الواجب لا حيث تتجه الأضواء ولأنها ابنة مقدومية الصعيد تلك المؤسسة التقليدية الراسخة التي أسس أركانها رجال عظماء في مقدمتهم الوزير الأول في بلاط سلطنة دارفور عبد الرحمن رجال والمقدوم الزين والمقدوم أحمد والمقدوم صلاح كانت فاطمة امتداداً طبيعياً لذلك الإرث المجيد تحمله في جيناتها وتترجمه حضوراً وحكمة وقيادة لم تأتِ من فراغ بل من بيتٍ له في المجد جذورٌ وفي المجتمعات أثر ومنذ نشأتها تربّت على القيم الإسلامية والسودانية الأصيلة الكرم التواضع احترام الكبير ونصرة الضعيف كانت واحدة من أولئك الذين لا يحتاجون إلى تعريف… مجرد ذكر اسمها يكفي ليفتح لك أبواب القلوب. كانت حاضرة دائماً في الأفراح مواسية وفي الأتراح سنداً حتى صارت رمزاً اجتماعياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى لكنها لم تكتفِ بالرمزية أو المجاملة الاجتماعية بل اقتحمت أسواراً طالما وُصمت بالرجولة وحدها فكانت أول امرأة تُعيَّن في منصب عُمدة في تاريخ السودان منصب ظل حكراً على الرجال لعقود لكنها كسرت القاعدة وكتبت بوجودها فصلاً جديداً في تاريخ الإدارة الأهلية لم تكن مجرد عمدة بل كانت مشروع إصلاح اجتماعي متكامل أعادت صياغة الدور التقليدي للعمدة بمنظور حديث مراعٍ لحاجات المرأة والأسرة والمجتمع جمعت بين أصالة التقاليد وروح العصر فخطّت طريقاً فريداً وفتحت الباب واسعاً أمام نساء كثيرات مؤهلات كن ينتظرن من يكسر الجدار الأول وفي أروقة البرلمان لم تكن الحاضرة الصامتة بل كانت صوتاً مدوّياً للهامش وأمينة على أحلام النازحين والمدافعة الصلبة عن قضايا النساء لكن من منظورٍ لا يصطدم بالقيم والدين بل ينطلق منهما نحو تمكين واقعي وإنصاف مستحق
لم تتلون ولم تساوم بل كانت صاحبة موقف واضح تستمد قوتها من صدقها ومن محبة الناس التي لم تفتعلها بل كسبتها بحسن معشرها ونبل مقصدها وما ميّز فاطمة وما سيخلّد اسمها لم يكن فقط ريادتها أو مناصبها بل إنسانيتها العميقة كانت تداوي الجراح بكلمة وتربت على أكتاف الأرامل وتُقدِّم الدعم النفسي للنساء المنكوبات بالحروب والنزاعات كانت تلتحف هموم مجتمعها وتوزّع الفرح متى حضر وتحتمل الحزن حين يزور أحدهم لم تكن بعيدة عن نبض الناس بل كانت في قلب الحدث في وسط الميدان وفي صفوف المتألمين كانت من أشرس المدافعات عن حقوق المرأة لا بلهجة صدامية بل برؤية حكيمة تنطلق من ثقافة المجتمع وتتناغم مع روح الإسلام السمحة آمنت أن تمكين المرأة لا يعني فصلها عن بيئتها بل تأهيلها لتنهض من داخلها لتكون فاعلة دون أن تفقد جذورها برحيل فاطمة تفقد دارفور عامة وجنوب دارفور خاصة واحدة من أعمدة السلام الاجتماعي وأبرز دعاة الأمن والاستقرار وسيدة من طراز نادر صنعت حضورها بالعمل لا بالشعارات وبالقيم لا بالصوت العالي إن فاطمة تُشبه في طهرها فاطمة الزهراء وفي حكمتها بلقيس وفي وقارها خديجة الكبرى… جمعت من كل واحدة سمة وصنعت من نفسها سيرةً لا تُنسى
رحمكِ الله يا فاطمة… يا من صنعتِ من اسمك معنى، ومن حياتك رسالة ومن رحيلك وجعاً جميلاً يعلّمنا كيف نحب الوطن عبر الناس وكيف نخلّد الذكرى بالعمل لا بالكلام.
نم قريرة العين يا (عُمدة القلوب)… فقد أديتِ الأمانة وصدقتِ الوعد وأحبك الناس وشهدوا لك بالخُلق، والعطاء والصفاء.
خالص التعازي لمجتمع نيالا وأهلها وذويها
خالص التعازي لأسرة المقدومية والإدارة الأهلية لقبيلة الفور قاطبة
إنا لله وإنا إليه راجعون

