ويبقى الأمل: أميمة عبدالله
هنالك هزائم عميقة تشبه الأحزان في حياتنا تختبئ في أكثر مناطق القلب خفيةً، لا تمتد إليها أيدي الزمان ولا يمحوها تعاقب السنوات، أحزان لا ننساها ولا نبكيها، تلازم الروح وتنطبع على القلب، تكون بها الإبتسامة منقوصة على الدوام والفرح عادياً، أحزانٌ كأنها أيقونة تذكار، ربما فقد أبناء في توقيتٍ واحد، أو موت رفيق أو خذلان دنيا، أو فراق مدينة تشكلّنا فيها أو شكلّتنا مجبرين، أحداث في عنفها كانت الصدمة التي تحولت إلى حزنٍ مقيم.
المدن كما الأفراد كما الشعوب تحمل ذات الخصائص إلا انها موسعة بعض الشئ، ونبض المدن كما نبض الروح كما الفؤاد.
يخفق القلب عندنا للحب، تتغير الطبائع بتأثيره، وتُطوع العادات وفقا للحبيب، نسير دروباً ما عرفناه من أجله، تتغير الحيوات بالحب وغالباً تتبدل تواريخ الميلاد لنحتفل بالتاريخ الجديد على المدونة. وللحبيب عندنا علواً في القلب يشبه السماء.
والقلوب تخفق ثانية بالحب لكنه هنا يبتلعنا بالكامل لينبض القلب بنبضه، إنه عشق الأمكنة والمدن، مدينة تظل فينا حاضرة نابضة حية، تعرفنا ونعرفها، نكبر في كنفها ونكون حينها جزءأ من ذاكرتها، وتكون هى ذاكرتنا.
إنها حالة خاصة جدا، مدينةُ في قلبك، تاريخها تاريخك، شرفك من شرفها وأمنك من أمنها، تتشابهان في الأقدار، لا تنعم من دونها، تمتزجان معا ولا تصلح حياتك بعيدا عنها، فراقك معها دائما مؤقتا، لا تستطيع إلا معاودتها كل حين، مدينة للحب أنفاسها دفئك، ما أن تناديك حتى تهرع، وفي بلادنا هذه المدينة الآن نراها بالشواهد.
قدرها منذ نشوب النزاع المسلح قبل عشرين عاما أن يتفرق أبنائها بين الدول، حملوها كزهرة ندية في قلوبهم ورحلوا عنها.
المدينة التي سطعت كما القمر وسط المدن السودانية في حربها القائمة والمدمرة، بهرتنا فاشر السلطان بوفاء أولادها، تراكموا حولها كما النجوم ساعة ظلام الدنيا فأُضيئت سمائها بالشجاعة والإقدام والصمود والتضحية، أذاقت المرتزقة أعداء الوطن الهزيمة بالمكيال، وكان نفوق المليشيات بالعشرات حولها، صمدت الفاشر صمود الجبال ولم تتزحزح ، ليست الهزيمة وحدها من قهرت الجنجويد وأذلتهم بل الشرف الذي حمى المدينة هو الذي قهرهم، لأنهم لا يعرفون معنى شرف المدن ولا غضبة أبنائها عندما توافدوا ليفدوها بأرواحهم، هزمتهم الفاشر بالرعب والصمود.
أحاطها أبناءها ساعة المحنة كما يحيط السوار بالمعصم، تنادوا كما لم تنادي مدينة أخرى أبنائها، تراصوا كالبنيان حائط حماية، جاءوا من العواصم الأوروبية والأفريقية ليخوضوا معركة حماية مدينتهم، أذهلونا بحماسهم، إستعرضوا قوتهم أمام المرتزفة الغزاة، صمود الفاشر من صمود السودان الواحد، لن يسمحوا بالهزيمة أن تسكن قلب مدينتهم، ولن يسمحوا للجنجويد أن يلوثوا هواءها بأنفاسهم الغادرة و أيديهم الملوثة بالخيانة. هنيئا لفاشر السلطان تاريخها وأولادها ونسائها وهنيئا للسودان صمود مدنه في وجه الغزاة المرتزقة .
يتساقط الشباب كالثمار الناضجة على حدودها وهم في أوج دماءهم الحارة، يفدونها، يدفعون أرواحهم قرباناً خالصاً.