حواء داوود تكتب بمداد الدموع
حين يسقط الصحفي شهيداً والكلمة في يده…
يا للوجع! يا للفقد الذي لا يُمكن وصفه!
رحل مبارك باكرًا… رحل وما تزال الحياة أمامه مليئة بالفرح، بالضحك، بالجمال.
ليلة الثلاثين من سبتمبر 2024 صفعنا القدر ولكن هذه المرة كانت الضربة قاسية
وفي ليلة الأول من أكتوبر رقد جسدك المنهك بأسئلة البلاد والحياة وحلّقت روحك في سموات الرحمة تلك الرحمة التي هي أقصى ما نتمناه في هذه الحياة
الفقد قاسٍ بطول سنوات معرفتنا وبالدروب المشتركة التي سلكناها في الفاشر منذ أن التقينا في ذلك النهار من مارس 2020
رحل ابنٌ عاشقٌ للحياة… فكيف له بالرحيل وهو فاكهة الأماكن أينما حلّ؟
رقد مبارك بالأمس فقد ارتاح الجسد من عناء الروح وأسئلتها
انطلقت روحه القلقة بالمعرفة الشغوفة بالتحليل ذات المواقف السياسية الواضحة
ولن تكون الفاشر التي عرفناها كما كانت من قبل…
ثمة ضوء بعيد توارى في سموات رحيمة
تلك الرحمة التي تنبع من قلبك حيث عطاء يدك الممدودة بالمحبة لمن لا يعرفهم أحد سواك.
إنه سر الله الذي أودعه فيك…
سرٌ تجلّى في خفة روحك التي رحلت لكن عبيرها ما زال يملأ كل الأمكنة التي شهدت منك حكايات ومسرّات
في مدينةٍ محاصرة بالدم والدخان حيث تختلط الحقيقة بالرصاص وتغيب العدالة خلف المتاريس
كان لا بد أن ينهض أحدهم ليحمل الكاميرا بدلاً من البندقية والقلم بدلاً من الرصاصة
ليحمل نبض المدينة ويحكي عن المأساة ويوثق جرائم الميليشيا.
اليوم لن أكتب بالحبر وإنما بدموعي… بدمي.
أقول في تلك اللحظة التي صمتت فيها المآذن وتراجعت العدسات
خرج مبارك موسى أبو سن إلى الميدان… ولم يعد
في أكتوبر من عام 2024 سقط مبارك موسى أبو سن شهيداً في مدينة الفاشر وهو يُمارس أنبل مهنة وأخطر مهمة متمثلة في نقل الحقيقة في زمنٍ
بات فيه الصمت أهون من النُطق والكذب أسهل من قول الصدق لم يكن مبارك جندياً في معركة تقليدية
لكنه كان أكثر شجاعة من كل الذين ارتدوا الخُوذات وتدثّروا بالسلاح
كان صحفياً حرّاً حاملاً صوت الناس ووجع الميدان وخرائط الألم الممتدة
من الأزقة المحروقة إلى أطراف المدينة المكلومة
وكان يعرف أن الخطر يُحيط به من كل جانب وكان يُدرك أن (الخبر) قد يكون آخر ما ينقله قبل أن يُغتال…
وربما نُقل الخبر عنه
لكنّه ظلّ هناك…
يُمسك بالكاميرا كأنها درع
وبالقلم كأنّه تعويذة
وبالإيمان برسالته كأنّه قدر
حين اشتدّ الخطر في مدينة الفاشر واختنقت الأزقة بصدى القذائف
اختار البعض أن يرحل أن يختبئ أن يلتزم الصمت أو يغادر البلاد.
لكن مبارك أبو سن بقي.
ظلّ صامداً متحدّياً نيران الحرب التي تحاصر المدينة من كل الجهات
لم يكن يبحث عن شهرة
ولا يسعى إلى ضوء
ولم تُغره المناصب ولا الامتيازات
كل ما أراده هو أن يعرف الناس الحقيقة مهما كانت قاسية
أن يسمع العالم صوت الأبرياء…
صديقي افتقدك الأمهات والثكالى…
أن ينقل للعالم أن هناك مدينة تُباد في صمت
وسكاناً يموتون بلا ضوء بلا صوت بلا شهود.
كان وحده أو يكاد
في شوارع لم تعد آمنة لا للمدنيين ولا للصحفيين.
يُقاتل بالسرد يوثّق بالصور
يُلاحق التفاصيل من أرض المعركة إلى المشافي إلى المقابر الجماعية
التي بدأت تطفو من تحت ركام الحرب
لم يكن مبارك يمارس دوره الصحفي فقط بل كان يساعد في نقل الجرحى ويسهم في إسعافهم
حين استُشهد مبارك موسى أبو سن
لم يُنقل الخبر في عناوين كُبرى ولم تتسابق الوكالات العالمية على سرد قصته
لأن الشهداء من هذا النوع لا يُحدثون (ضجة دولية)
بل يرحلون في صمتٍ عظيم تاركين أثراً لا يُمحى.
لكننا نحن…
نحن الذين قرأنا له وتابعنا تقاريره،ط وعرفنا صدقه
نعلم أنه لم يمت وحده
فحين سقط ماتت معه مساحة من الحرية
وماتت النجدة ومات صوتٌ كان يُدافع عن الهامش ويُذكّر بأن هناك إنساناً في دارفور يستحق أن يُروى وجعه قد يظن القتلة أنهم نجحوا في إسكات الصوت لكن صوت مبارك لا يُدفن
ستبقى تقاريره صوره ومقالاته شاهدة على لحظة صراع رهيبة
وعلى شجاعة رجل رفض أن يكون شاهد زور على مأساة وطنه
وسيذكره تلاميذ الصحافة
لا بوصفه كاتباً بل قدوة في الشجاعة المهنية
ومثالاً في الوفاء لقيم الحقيقة والإنسانية
في رثاء مبارك… رثاء للمهنة وللضمير
برحيل مبارك موسى جمعة، الشهير بـ(أبو سن)
لا نرثي فرداً فقط
بل نرثي جزءًا من ضمير المهنة من ذاكرة المكان
من شرف الصحافة التي ما عادت كما كانت نرثي عيوناً كانت ترى
وقلماً كان يكتب
وصوتاً كان ينقل الوجع دون تزييف
فالكلمات التي كتبها ستظلّ تُوجع القتلة
والحقائق التي نقلها ستظلّ شاهدة
ودربه سيظلّ مفتوحًا لكل صحفي حرّ
يؤمن أن الكلمة قد تكون أبلغ من الرصاص
ولن تكون الفاشر التي عرفتها كما كانت من قبل…
ثمة ضوء بعيد، توارى في سموات رحيمة
تلك الرحمة التي تنبع من قلبك
حيث عطاء يدك الممدودة بالمحبة
لمن لا يعرفهم أحد سواك.
إنه سر الله الذي أودعه فيك…
سرٌ تجلّى في خفة روحك التي رحلت
لكن عبيرها ما زال يملأ كل الأمكنة التي شهدت منك حكايات ومسرّات.
صديقي، وأنت في عليائك…
منذ رحيلك تعلّمتُ أن الذي كان يؤذينا
هو من كنا نخشى عليه من الألم
رحم الله الشهيد مبارك موسى أبو سن
وأنزله منازل الصادقين
وأبقى نوره في قلوبنا ما حيينا
