محاكمة علي كوشيب نهاية الإفلات من العقاب ورسالة صارخة لمليشيا الدعم السريععلي منصور حسب الله - صحفي وكاتب

ضل الحراز

 

بقلم علي منصور حسب الله

 

في قاعة المحكمة بلاهاي حيث لا صوت للرصاص ولا دخان للبارود أُسدل الستار على واحدة من أهم المحاكمات في تاريخ العدالة الدولية المعاصر حكمٌ تاريخيٌّ صدر بحق علي محمد علي عبد الرحمن المعروف باسم (علي كوشيب) القائد البارز لمليشيا (الجنجويد) في دارفور بعد إدانته بـ (27) تهمة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية شملت القتل الجماعي والاغتصاب والتعذيب والتهجير القسري والاضطهاد العرقي ورغم مرور أكثر من عشرين عامًا على ارتكاب تلك الجرائم البشعة أكدت المحكمة الجنائية الدولية ما بات واضحًا لا حصانة لأمراء الحرب ولا حماية دائمة لمن ارتكبوا الفظائع بدعمٍ من الأنظمة السياسية ثم تُركوا يواجهون مصيرهم وحدهم فالعدالة قد تتأخر… لكنها لا تموت وإدانة كوشيب دليل على ذلك هذه الإدانة لا تمثل فقط انتصارًا لضحايا دارفور بل تشكل أيضًا سابقة قانونية وإنسانية غير مسبوقة فهي أول إدانة ناتجة عن إحالة من مجلس الأمن الدولي إلى المحكمة الجنائية الدولية كان قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1593 الذي تم تبنيه في 31 مارس 2005 بعد تلقي تقرير من لجنة التحقيق الدولية بشأن دارفور، أحال المجلس الوضع في إقليم دارفور بالسودان إلى المحكمة الجنائية الدولية وطالب السودان بالتعاون الكامل معها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقتها أحال المجلس الوضع في 1 يوليو 2002 إلى المحكمة وحثّ جميع الدول على التعاون سواء كانت طرفًا في نظام روما الأساسي أم لا كما دعا المحكمة الجنائية الدولية والاتحاد الأفريقي لمناقشة الجوانب العملية للإجراءات وشجع على تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان ومكافحة الإفلات من العقاب في دارفور أكد القرار أيضًا على أهمية المصالحة من خلال إنشاء لجان الحقيقة مثلًا ويُخضع القرار مواطني دول غير السودان الذين لم يعترفوا باختصاص المحكمة لهذا الاختصاص فيما يخص الأفعال المتعلقة بالسودان وتم تبني القرار بأغلبية 11 صوتًا مع امتناع 4 دول عن التصويت بينها الجزائر التي فضّلت حلاً داخل الإطار الأفريقي

والبرازيل التي وافقت على القرار لكنها اعترضت على موقف الولايات المتحدة من اختصاص المحكمة

والصين التي رفضت بعض بنود النظام الأساسي للمحكمة ودعت إلى محاكمة الجناة أمام محاكم سودانية وأخيراً الولايات المتحدة التي عارضت بعض أحكام المحكمة لكنها دعمت من حيث المبدأ جهود مكافحة الإفلات من العقاب كانت هذه هي المرة الأولى التي يحيل فيها المجلس قضية إلى المحكمة ويُلزم دولة بالتعاون معها مما يعكس إرادة دولية ولو متأخرة للتصدي لجرائم الإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة لقد استغرق الوصول إلى هذا الحكم أكثر من عقدين ومرّت العدالة عبر دروبٍ وعرة من الإفلات والتواطؤ والشهادات المسكوت عنها والوثائق المحجوبة

لكن النهاية جاءت شاهدة على أن المجرمين قد يهربون… لكنهم لا ينجون

ومن وادي صالح بغرب دارفور حيث سُفكت دماء الأبرياء إلى قاعات لاهاي حيث صدحت أصوات الشهود اكتملت الدائرة وأصبح كوشيب الذي نجا ذات مرة من محاولة اغتيال في نيالا عام 2013 عبرة حية لمن يظنون أن الجريمة تُمحى بالتقادم أو أن الولاء للسلطة شفيعٌ دائم في وجه القانون والرسالة إلى الداخل على من يجب أن يقرأ الدرس؟ فمحاكمة كوشيب يجب أن تُقرأ جيدًا في الخرطوم الجنينة ومعسكرات النازحين ومقار قيادة مليشيا الدعم السريع التي تواجه اليوم اتهامات موثقة بارتكاب جرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية في دارفور وأماكن أخرى على غرار كوشيب يظن البعض أن القوة وحدها تصنع الشرعية وأن الدعم القبلي أو الانتماء العسكري أو رضى القادة السياسيين يمنحهم الحصانة لكن التاريخ يثبت عكس ذلك فكل من تورّط في القتل والاغتصاب والتعذيب سينتهي عاجلًا أم آجلًا في قفص الاتهام مجردًا من رتبته وسلاحه وحلفائه من كان بالأمس (قائدًا ميدانيًا) يُهلّل له أنصاره في ميادين الدم أصبح اليوم (مجرم حرب) تُنطق باسمه أحكام الإدانة فمن يدفعك إلى الجريمة… لن يدافع عنك وأحد أخطر الدروس من محاكمة كوشيب أن من يصدرون الأوامر يتنصلون منها عند أول استحقاق قانوني فأين عمر البشير اليوم من كوشيب؟ وأين أحمد هارون الذي سلّحه؟ وأين عبد الرحيم محمد حسين الذي رسم له الخطط؟ وأين النظام الذي وفّر له الغطاء السياسي والعسكري ؟ كلهم اختفوا وتركوه وحيدًا يواجه مصيره وحده لم تنفعه الألقاب ولا مقاطع الفيديو التي تباهى فيها بقتل الآلاف ولا تهديداته الموثقة التي قال فيها ذات يوم (اشتقت للدم) فمن يقودك اليوم إلى الجريمة سيقول غدًا (لا علاقة لي، لم أعطِ الأوامر) لن يمدّ لك يد العون حين تُحاكم لن يُرسل لك محاميًا ولن يتكفل بك في السجن ستواجه وحدك قاعات المحكمة وشهادات الضحايا وصور الأطفال القتلى والقرى المحروقة

وهذا ما يجب أن يفهمه قادة ومنسوبو الدعم السريع وكل من تورط في جرائم ضد المدنيين في دارفور الخرطوم الجزيرة وغيرها وكوشيب لم يكن استثناءً… بل هو البداية فقط فاليوم بات التوثيق أكثر سهولة من أيام كوشيب وأصبحت آلاف الصور ومئات الشهادات ومقاطع الفيديو من هواتف الجنود أنفسهم تُستخدم كأدلة دامغة في المحاكم لقد وثّقت منظمات مثل الأمم المتحدة وهيومن رايتس ووتش والعفو الدولية جرائم مروعة ارتكبتها مليشيا الدعم السريع منها اغتصابات جماعية في الجنينة والخرطوم وحرق قرى بأكملها خاصة في الجزيرة وشمال دارفور ودفن الضحايا أحياء في الجنينة وإعدامات ميدانية موثقة ومقابر جماعية وقائع تعذيب وحشية موثقة في تسجيلات متداولة هذه ليست تجاوزات فردية بل أنماط ممنهجة تشير إلى مسؤولية قيادات عليا ومثلما فُتح ملف كوشيب ستُفتح ملفات أبو لولو شويطين وغيرهم ممن ظنوا أنهم بمنأى عن العدالة ومحاكمة كوشيب ليست نهاية بل جرس إنذار مبكر ليست فقط انتصارًا للضحايا بل درس صارم لكل جندي أو قائد يظن أن تنفيذ الأوامر يحميه فالمبدأ القانوني الدولي واضح (المسؤولية الجنائية الفردية لا تُرفع بحجة تنفيذ الأوامر) بمعنى أن لا أحد يمكنه الاحتماء بالقول (كنت أتبع التعليمات) المسؤولية تبدأ بالفعل وكوشيب رغم أنه لم يكن أعلى هرم القيادة انتهى في لاهاي لأنه قاد وشارك وأمر وسكت صحيح أن طريق العدالة في السودان ما زال طويلًا وأن كثيرًا من الجناة ما زالوا طلقاء بل إن بعضهم ما يزال يُمارس القتل والترويع باسم الديمقراطية أو القبيلة أو المليشيا لكن بابًا فُتح أخيرًا وكوشيب لم يكن الأخير بل كان الجرس الأول في سلسلة طويلة من الاستدعاءات المنتظرة فلقد آن الأوان أن يفهم الجميع أن الدماء لا تجف بالنسيان والانتهاكات لا تسقط بالمساومات السياسية ولا تُمحى بمرور الزمن أو بتغيير الأنظمة فما حدث في لاهاي ليس فقط محاكمة لمجرم حرب بل هو محاكمة لمنظومة كاملة من الإفلات والتواطؤ والتحريض كما حدث في حالة معسكر زمزم للنازحين وهي محاولة جادة لتأسيس بداية جديدة تعترف بأن العدالة ليست رفاهية بل ضرورة وطنية وأخلاقية

محاكمة كوشيب تؤسس لتحول جوهري في نظرة السودان والمجتمع الدولي إلى فكرة المساءلة والمحاسبة

هي صرخة في وجه الإفلات من العقاب وصفعة في وجه كل من اعتقد أن السلاح والسلطة والقبيلة والمال يمكن أن تحميه إلى الأبد

وإذا لم تكن هذه اللحظة نقطة تحوّل فمتى تكون؟

هل نحتاج إلى المزيد من (كوشيب) حتى نفهم الدرس؟ هل ننتظر أن تتكرر فظائع الجنينة أو الجرائم في الجزيرة أو الحصار في نيالا أو الحرق في كردفان أو دفن الضحايا في مقابر جماعية حتى نوقن أن الوطن كله أصبح رهينة؟

السودان اليوم على مفترق طرق إما أن يبدأ فعليًا فصلًا جديدًا من العدالة الانتقالية والمحاسبة وجبر الضرر وإما أن يستمر في دوامة الدم والتشظي والانهيار الأخلاقي والمؤسسي ومحاكمة كوشيب لن تُعيد الحياة لمن قُتلوا ولن تمحو آلام الاغتصاب ولن تمسح دموع الأمهات لكنها ترسّخ مبدأ عالميًا مفاده (لا أحد فوق العدالة… ولا جريمة بلا حساب) والآن وقد قال القانون كلمته يبقى السؤال الأهم هل سيتحرّك الداخل السوداني لإكمال ما بدأته المحكمة الجنائية الدولية؟ هل ستنشأ لجان حقيقية للمساءلة والمصالحة؟ هل سيحاسب القادة والمجرمون لا لأن لاهاي قالت ذلك بل لأن الشعب السوداني يستحق العدالة والكرامة والحقيقة؟ نعم العدالة تتأخر لكنها قادمة لا محالة والتاريخ وإن تظاهر بالنسيان لا يغفر

والضحايا وإن ماتوا لا يصمتون والمجرمون،ط وإن تأخر حسابهم لا ينجون فالكرة الآن في ملعب السودان…فهل نبدأ فعلاً فصلاً جديدًا؟