علّمني والدي -رحمه الله- أن الموقف المحايد في بعض المواقف هو في حد ذاته موقف غير محايد!
قال لي أحدهم إن العنب هو أبو الزبيب، فقلت له: “وأبو النبيذ أيضاً!”
لا تحدثني عن مليشيا الدعم السريع دون أن تذكر الفظائع، وعمليات القتل الممنهج، والشفشفة، وقصف المستشفيات والأعيان المدنية، وحرق المدن والقرى. وحدها الذاكرة المعطوبة تنسى محرقة الضعين ومجزرة بابنوسة…
البعض ينغمس في الكسب الحرام وغير المشروع، لكنه يدّعي الطهر والنقاء والشرف. فالتدليس والغش والاختفاء وراء لافتة “لا للحرب” لا تعني أن أصحاب هذه الشعارات كذلك، بل يتم بها التغطية على الانحراف، مع التظاهر بالنزاهة ومهاجمة الشرفاء وأصحاب الضمير الحي.
لا يُعرف الشرف بالادعاء، وإنما بالمواقف! هناك من يتخذ الشرف ستاراً، بينما يمارس في الخفاء التدليس والغش. وهناك من يكيل بمكيالين تجاه القضية الواحدة؛ فتراه يتحدث عن قصف الطيران، لكنه يصمت عن جرائم المليشيات.
يكثر الحديث عن الحلول السلمية عبر المفاوضات. وأنا شخصياً مع الحل السلمي، لكن ليس على حساب الضحايا والمظلومين.
كتبتُ كثيراً داعياً إلى دمج هذه المليشيا، وتنفيذ بند الترتيبات الأمنية لقوات الحركات المسلحة، لأن وجود آليات حربية وسلاح خارج المؤسسات العسكرية النظامية يمثل خطراً داهماً، وإن لم يكن على كل الشعب السوداني، فعلى شعب دارفور بالدرجة الأولى.
كفى تعليق المآسي البشعة على شماعة “الطرف الثالث”! المطلوب هو الإسراع في تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، وحسم أمر الدعم الإماراتي السريع بفرض الدمج الكامل، لنرى بعد ذلك ما سيفعله “الطرف الثالث” الذي يردده البعض لتبرير ما يحدث من قتل وسحل ونهب.
كتبنا سابقاً، وقلنا إن حميدتي، الذي صعد على أكتاف قواته، فإن هذه القوات ذاتها ستكون السبب في انهيار ملكه وضياع سلطته، بسبب ما تقوم به من خروقات اجتماعية وجرائم تسببت في عداوات واسعة مع معظم القبائل التي دخلت في صراعات مع المكون القبلي لقادته. لكن سُكرة السلطة لم تترك له فرصة الاستماع إلى صوت الحكمة.
كتبنا أيضاً عن ضرورة ترك الكيزان وشأنهم، فهم لم يتسببوا في هذا الصراع، ولو كانوا بهذه القوة لما فقدوا السلطة بكل سهولة. وإن كانت لديهم نية لشن الحروب، لما خرجوا من الحكم وهم في موقف أقوى بكثير مما هم عليه الآن.
لكن كلام القِصار ما كان مسموعاً!
حذرنا من مخاطر الانصياع لفولكر، وتمترس القوى السياسية خلف مواقفها الضيقة، لكن طالما وقع الفأس في الرأس، فإن الحل يجب أن يكون شاملاً، وليس وفق مصالح القوى السياسية التي كانت سبباً فيما حدث، والتي لا ترى خارج الخرطوم مهما كانت الأوضاع.
لا للمليشيات بعد اليوم!
الحل يجب أن يكون جذرياً: عدم السماح مستقبلاً بتكوين أي مليشيا، لأننا لم نتعلم من أخطاء الماضي. فمنذ أن قامت حكومة الصادق المهدي عام 1986م بتسليح مجموعات قبلية، دخل السودان في دوامة التمليش، ولم يجد عافية بعدها.
ثم جاء الإنقاذيون ووسعوا سياسة التمليش، فكانت النتيجة تمزيق النسيج الاجتماعي، وحريق دارفور، وبعض مناطق كردفان، وفصل جنوب السودان.
لقد أصبحت الدوشكات، وعربات الدفع الرباعي، والهاونات، أدوات للصراعات القبلية، بدلاً من أن تكون أسلحة لحماية الوطن.
الحل واحد: جيش قومي مهني واحد
آن الأوان لتصحيح أخطاء الماضي، بإنهاء المليشيات نهائياً، والاعتماد على جيش قومي مهني واحد.
هذا هو المدخل الحقيقي لمعالجة الأسباب الجذرية التي تدفع البعض إلى حمل السلاح ضد الدولة.
أي تفكير في حل الأزمة بعيداً عن جذورها، أي دون إزالة مخاطر وجود آلة حربية خارج إطار القوات النظامية، يعني حلاً جزئياً مؤقتاً، قد يكون أكثر خطورة على الوطن من المشكلة نفسها.
إذا لم تكن الحلول شاملة وواضحة، فستكون بمثابة “مسح الدهن في العتاقي”.
آخر الضل
ننشغل كثيراً بنقد الفروع الفاسدة، لكن علينا أن نتوقف قليلاً ونفكر في البذرة التي أنبتتها، فلا قيمة لأي نقد لا يصل إلى العمق!