ضل الحراز: علي منصور حسب الله
انسحب الجيش السوداني من اللواء 18 بمدينة النهود، بولاية غرب كردفان، بعد معارك ضارية مع مليشيا الدعم السريع، التي اجتاحت المدينة الاستراتيجية في مشهد مأساوي يعيد إلى الأذهان مشاهد السقوط المتكررة.
لكن ما حدث مساء الخميس، الأول من مايو 2025، لم يكن مجرد انسحاب أو معركة عابرة، بل مذبحة ممنهجة تُضاف إلى سجل أسود من الجرائم التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين العُزّل، وسط صمت دولي مخزٍ يكاد يرقى إلى مرتبة التواطؤ الفاضح.
في لحظة حالكة، اجتاح رتل من عربات الموت مدينة النهود، ليبدأ فصل جديد من الرعب. لم تكن هناك أهداف عسكرية، بل كانت المهمة واضحة: تصفية النخب، اغتيال الرموز، وقتل الأمل.
من هم الشهداء؟
الدكتور محمد المصباح مدني، عميد كلية علوم الحاسوب بجامعة غرب كردفان، اغتيل مع ابنه وابنته داخل منزله، برصاص حاقد لا يعرف غير الكراهية. عالم من علماء السودان، وذنبه أنه بقي صامدًا في مدينته.
الشيخ أحمد علي النعمان، داعية الكلمة الصادقة، قُتل في منزله بعد ظهوره في تسجيل مرئي يشد أزر الناس على الصبر والثبات. أي تهديد يمثله رجل أعزل لا يحمل سوى الكلمة؟
الرائد أحمد محمد عبدالله جلو، مدير الشرطة القضائية، ذُبح مع زوجته في مشهد وحشي يعيدنا إلى عصور الظلام.
الإعلامي الحسن فضل المولى موسى، صوت النهود في إذاعة غرب كردفان، أُسكت بالرصاص لأنه كان لسان حال المدينة.
عبد الرحيم صافي الدين ناجح، شقيق رئيس شورى قبيلة حمر، اغتيل مع ابنة شقيقه، فقط لأن صلته برمز قبلي جعلته هدفًا.
أهل دار حمر، وفي مقدمتهم سكان النهود، أدوا واجبهم كاملاً. رابطوا، دافعوا، صمدوا لأكثر من عام تحت الحصار، وقدموا تضحيات جسامًا. لكن الطعنة جاءت من حيث لم يتوقعوا: الطابور الخامس.
أحزاب (قحت) ، وتحديدًا حزب الأمة جناح المليشيا، حزب المؤتمر السوداني، حزب البعث جناح السنهوري، وبقايا الحركة الشعبية من أبناء المنطقة، كانوا الخنجر المسموم في خاصرة المدينة.
الخلايا النائمة، التي تسللت تحت غطاء النزوح، مهدت الطريق للمجزرة، رغم التحذيرات المسبقة، ورغم إعلان المليشيا نيتها الواضحة للهجوم وحشدها قواتها على بعد كيلومترات فقط من قلب المدينة.
كعادتها، وبمساعدة تلك العناصر، بدأت المليشيا عمليات التصفية بحق المدنيين. أكثر من عشرة من الأساتذة الجامعيين تم اغتيالهم، إضافة إلى نهب واسع، ترويع، انتهاك للأعراض، وسلب للممتلكات.
اللهم تقبل الشهداء، واشف الجرحى، وعجّل بخلاص المختطفين، واحفظ أهل النهود، وعلى رأسهم الأمير عبد القادر منعم منصور.
ولن تستقر لمليشيا الجنجويد الإماراتية المجرمة قدم في كردفان، ولا في أي بقعة من أرض السودان الطاهرة. فالحرب سجال، والأيام دول.
ومجزرة بأكثر من 230 شهيداً أكثر من 230 شهيدًا ارتقوا في هذه المجزرة، بينهم 21 طفلًا و15 امرأة. نهبت المليشيا الإمدادات الطبية، واقتحمت مستشفى النهود التعليمي، فتوقفت الخدمات الصحية بالكامل. كما دُمرت صيدليات خاصة، ما زاد معاناة الجرحى والمرضى.
أدان كثيرون هذه الجريمة بوصفها انتهاكًا صارخًا للقيم الإنسانية والمواثيق الدولية، مطالبين بتدخل فوري من المجتمع الدولي.
لكن، أين المجتمع الدولي؟ أين لجان التحقيق؟ أين المحكمة الجنائية الدولية التي هرولت إلى دارفور قبل عشرين عامًا، لكنها اليوم تتثاقل وتتوارى؟
هذا الصمت ليس حيادًا… إنه تواطؤ.
كلما طال الصمت، زادت المليشيا شراسة.
وكلما غاب الردع، زادت الجرأة على القتل.
إلى القيادة السودانية:
هذه ليست لحظة بيانات دبلوماسية ولا مناسبة للتهدئة. ما حدث في النهود إهانة لكل سوداني، ونداء أخير لقادة الدولة:
الرحمة لا تصنع النصر،
والتردد لا ينقذ المدن.
هذه معركة وجود، يجب إدارتها بإرادة لا تعرف الارتباك، وعقلية تعي أن الوطن يُذبح مدينة تلو الأخرى. نعم، النهود ستعود. وستعود حتمًا، لأن هذه الأرض لا تعرف الهزيمة، وأهلها لا يركعون.
لكن عودتها لن تكون بلا ثمن:وثمنها تغيير الذهنية. ثمنها وضوح الرؤية. وثمنها فعلٌ يليق بحجم الجريمة.
إلى أهل النهود:
دماؤكم لن تذهب سدى. وأسماء شهدائكم ستُكتب نورًا في تاريخ السودان. وسيرى من خان وتواطأ أن الشعوب لا تموت، وإن نزفت.
حسبنا الله ونعم الوكيل.