ضل الحراز: علي منصور حسب الله
الدكتور كامل إدريس،
وها أنت اليوم تقف أمام شعبك، تؤدي اليمين الدستورية رئيسًا للوزراء، متقلدًا أمانة ثقيلة في زمن بالغ الدقة والحساسية. تستلم راية وطن أنهكته المحن، وتتصدر مشهدًا تتنازعه الأزمات والتحديات، لتكون رئيس الوزراء العشرون في تاريخ السودان، بعد مسيرة بدأها الزعيم إسماعيل الأزهري، ومرّت بعهود متباينة، كان آخرها عهد الدكتور عبد الله حمدوك.
في كل تلك المراحل، تعاقبت على بلادنا الانقلابات، والثورات، والتجارب المدنية والعسكرية، وكأن السودان محكومٌ عليه بأن يدور في فلك الأزمات دون انفكاك. ومع ذلك، يظل الشعب السوداني، على ما فيه من جراح، شعبًا لا يفقد الأمل، ولا يتنازل عن حلمه بوطن كريم عادل مزدهر.
إن كان لي أن أقول كلمة في هذا اليوم المفصلي، فهي دعوة صادقة للتأمل العميق في جذور أزمتنا الوطنية، لا مجرد التعامل مع أعراضها. أدعوك أن ترى السودان بعيون مواطن يحلم، لا بعيون مسؤول محاط بالأوراق والتقارير. أن تستمع لنبض الشارع لا فقط لأصوات المستشارين. أن تنظر إلى البلاد كما هي، لا كما تُراد أن تُرى.
مشكلات السودان لم تولد اليوم، ولا هي نتاج لحظة عابرة. بل هي تراكم لتاريخ طويل من الإقصاء، والفساد، والمحسوبية، والتفاوت الطبقي، وفشل مؤسسات الدولة في أداء دورها. الثورة الأخيرة، وما سبقها من احتجاجات وانتفاضات، لم تكن إلا نتيجة طبيعية لانفجار الغضب المكبوت، والإحساس العميق بالظلم وغياب العدالة.
أحد أعمدة الأزمة هو الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين أقلية مرفهة تتحكم في مقدرات الدولة، وغالبية مسحوقة تكافح من أجل البقاء. هذه الفجوة لا تخلق فقط الغبن، بل تؤسس لعنفٍ بنيوي دائم، وتغذي بيئة الاحتجاج واللا استقرار، وتزرع في النفوس بذور الكراهية واليأس.
يوازي ذلك الفساد المستشري، الذي لا يقف عند حد الرشوة ونهب المال العام، بل يتجذر في أسلوب إدارة الدولة، وفي غياب الشفافية، وفي الحماية الممنوحة للفاسدين. أما المحسوبية، فهي سرطان آخر، يعطل الطاقات، ويحرم البلاد من كفاءاتها، ويكرّس الضعف والولاء الأعمى، بدلًا من الجدارة والاستحقاق.
لن تقوم لهذه البلاد قائمة إن لم يتم اجتثاث هذين الخطرين: الفساد والمحسوبية. لسنا بحاجة إلى لجان موسمية لمحاربة الفساد، بل نريد إرادة سياسية حقيقية، وجهازًا رقابيًا مستقلًا، ومحاسبة علنية تطال كل من خان الأمانة، كائنًا من كان، دون حصانات أو استثناءات. نريد قوانين تُطبّق بعدالة، لا تُستخدم سيفًا على الضعفاء وتُغمد أمام الأقوياء.
السودان ليس فقيرًا، لا بموارده، ولا بعقول أبنائه. بل هو من أغنى البلدان إن أُحسن استثماره. وقد راهنّا كثيرًا على كفاءاتنا الوطنية في المحافل الدولية، وأنت أحد أبرزهم. لكننا تعلمنا من تجربة الدكتور عبد الله حمدوك، أن الشهادات العالمية لا تكفي، وأن الأهم من الألقاب هو الانتماء الحقيقي لهموم الوطن ومصالحه. لا نريد من يستخدم علاقاته الدولية لتكريس التبعية، بل نريده أن يوظفها لخدمة استقلال القرار الوطني، واستعادة كرامة الدولة السودانية.
واحدة من أخطر ما يُعيق تقدمنا هي عقدة الإقصاء. فقد دُمرت تجارب ناجحة فقط لأن أصحابها لا ينتمون إلى القبيلة السياسية أو الفكرية الحاكمة. وكم من مشاريع وطنية طُمرت بروح انتقامية بائسة، لا لشيء إلا لأن أصحابها “ليسوا منّا”. هذه الثقافة لا تصنع وطنًا، بل تهدمه.
إن الخروج من النفق المظلم لا يكون إلا بقبول التنوع والتعدد والاختلاف، وبناء وطن يسع الجميع، دون تمييز على أساس الجهة أو العرق أو الانتماء السياسي. لا نهضة دون عدالة، ولا استقرار دون مساواة.
رسالة أخيرة
الدكتور إدريس،
أمامك فرصة نادرة، ومسؤولية جسيمة. إما أن تكتب اسمك في دفتر المجد، وإما أن تكون مجرد حلقة إضافية في سلسلة طويلة من الخيبات الوطنية. الناس أنهكهم الصبر، وسئموا الخطابات المنمقة والوعود المجردة. يريدون عملًا، لا كلامًا. فعلًا، لا تنظيرًا. حزمًا، لا تسويفًا.
البداية الواضحة، بل الحتمية، هي:
محاربة الفساد بقوة،
وإنهاء المحسوبية بلا هوادة،
وتطبيق القانون على الجميع، دون استثناء أو انتقائية.
فهل تفعلها؟
– مواطن سوداني يحلم بوطنٍ يسع الجميع