ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في لحظة تاريخية حرجة يمر بها السودان، لا تزال الدولة تمارس ذات السياسات التي أسهمت في تعميق الانقسامات المجتمعية، وتغذية نار الصراع، وتفتيت النسيج الوطني، بدلًا من أن تكون عامل وحدة واستقرار. المؤسف أن هذا يحدث اليوم بصورة أكثر وضوحًا في مكونات ولايات جنوب وشرق دارفور، حيث تبرز ممارسات انتقائية تفتح أبواب الدولة أمام أفراد بعينهم، وتمنحهم فرص مقابلة القيادات العليا في الدولة باعتبارهم ممثلين لتلك الولايات، وهو أمر لا يعكس حقيقة الواقع، ولا ينبع من إرادة مجتمعية جامعة.
في بورتسودان، برزت ظاهرة التمثيل الأحادي من قبل بعض أبناء دارفور الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم “أوصياء حصريين” على تلك الولايات. هؤلاء يلتقون بقيادات نافذة في الدولة، ويطرحون رؤى وتصورات لا تعبّر سوى عن مواقفهم الشخصية، ولكن يتم التعامل معها – للأسف – وكأنها تمثل صوت المجتمع بأكمله، أو إرادة الولاية برمتها. هذه الظاهرة تتجاوز المؤسسات الرسمية، وتقصي المكونات الاجتماعية الأخرى، بل وتتجاهل التباينات العميقة داخل المجتمع نفسه، بما في ذلك أولئك الذين ينتمون إلى ذات القبائل أو الخلفيات الاجتماعية لهؤلاء “الممثلين”.
المشكلة لا تقف عند حدود التمثيل الأحادي، بل تتجاوزها إلى ما هو أخطر: تكريس منطق “القبلنة” في العمل العام. هذا المنطق كان، ولا يزال، أحد أبرز الأسباب في تأجيج النزاعات المحلية، وتفجير الحروب بسبب صراع النفوذ على محليات أو إداريات داخل ولاية واحدة. حين تحتكر مجموعة بعينها تمثيل منطقة بأكملها، فإنها تخلق بيئة خصبة لاستقطاب الشباب على أسس قبلية، وهي البيئة ذاتها التي استغلتها مليشيا الدعم السريع في تجنيد واستقطاب أبناء الإقليم.
من المؤسف أن تُحوّل ولايات غنية بالتنوع مثل جنوب وشرق دارفور إلى ما يشبه “الحواكير القبلية”، أو الإقطاعيات الاجتماعية التي يُحتكر إدارتها والحديث باسمها من قِبل مكونات معينة. في حين أن الحقيقة تؤكد أن هذه الولايات تحتضن فسيفساء سودانية واسعة من كل الأعراق والثقافات والمناطق. هذا التعدد هو مكمن قوة، لا مصدر تهديد، لو أُحسن توظيفه. ولكن يبدو أن هناك من لا يزال يؤمن بذهنية “كركب عشان تركب”، وهي أحدي أبرز أساليب المؤتمر الوطني المحلول حيث تُزرع الفوضى القبلية لتثبيت النفوذ، وتمرير أجندات الإقصاء، وصناعة تمثيل زائف يُشرعن استمرار الهيمنة.
وأخطر ما في هذه المقاربة أنها تُلبس ثوب “السلم المجتمعي” و”الاستنفار الوطني”، بينما هي في جوهرها عملية تهميش ممنهجة وإقصاء متعمد. حين يرى المواطنون أن الدولة لا تستمع إلا لأصوات محددة، وتتجاهل مكونات اجتماعية واسعة، فإنهم يقرأون ذلك كرسالة واضحة: أنه لا مكان لهم في المعادلة الوطنية. وهذا الشعور يولد احتقانًا، ويغذي النزعات الانتقامية، ويهدد فكرة التعايش نفسها.
السؤال المشروع هنا: لماذا يُفتح الباب للبعض ويُغلق في وجه الآخرين؟ من منح هؤلاء صك التمثيل الحصري؟ وهل هم فعلًا الأقدر على تمثيل مصالح أهلهم ومجتمعاتهم؟ ماذا عن الأصوات المعتدلة، والمكونات التي ترفض الانجرار خلف الاصطفافات القبلية؟ أين موقعها في المعادلة الوطنية؟
لسنا ضد اللقاءات التي تُعقد مع القيادات المجتمعية، ولكننا نطالب بأن تكون هذه اللقاءات شاملة، شفافة، وتُجرى بحضور الجهات الرسمية الممثلة للولايات، وتراعي التنوع الإثني وتضمن ألا يحتكر أحد الحديث باسم الجميع. إن الدولة التي تتعامل بانتقائية، وتغض الطرف عن أصوات أصيلة، لن تُبنى على أسس عادلة، ولن تُنتج استقرارًا حقيقيًا.
آن الأوان لأن تعترف الدولة، قولًا وفعلًا، بأن السودان بلد متعدد. التعددية ليست شعارات تُزيّن الخطب السياسية، بل ينبغي أن تنعكس في صنع القرار، وفيمن يُستمع إليهم، ومن يُمنح حق التمثيل. الدولة التي تصغي لأصوات محددة فقط، تُغلق الباب أمام السلم الأهلي، وتُساهم – بصمتها أو انحيازها – في إعادة إنتاج الحرب.
الواقع اليوم يفرض سؤالًا لا يمكن تجاهله: هل هؤلاء الذين يجدون دومًا فرصًا للاجتماعات واللقاءات باسم الولايات، هم وحدهم من يعملون لمصلحة الوطن؟ هل هم أكثر إخلاصًا أو عطاءً من غيرهم؟ وماذا لو طالب الجميع بالعدالة والمساواة في التمثيل والتعامل؟ هل الدولة مستعدة لأن تستجيب لهذا المطلب العادل؟ أم أنها ماضية في فتح الأبواب للبعض، وإغلاقها في وجه آخرين؟
إن كان ثمة أمل في بناء وطن يسع الجميع، فلا بد من كسر هذه الحلقة المفرغة من الانتقائية، والاستماع إلى كل الأصوات، لا فقط لمن ينسجمون مع مزاج السلطة، أو يلبّون رغباتها.