حركات الكفاح المسلح بين الواقع والتشويه المتعمد

ضل الحراز: علي منصور حسب الله 

 

تمر بلادنا اليوم بمرحلة فارقة تُعد من أكثر اللحظات دقة وخطورة في تاريخها الحديث. إنها مرحلة يُستهدف فيها السودان استهدافًا إقليميًا ودوليًا ممنهجًا، ضمن مشروع شامل لتفكيكه، وإضعافه، ونهب مقدراته، تحت شعارات زائفة وذرائع مضلِّلة. وفي خضم هذه المعركة المصيرية، حيث تُسفك الدماء وتُقدَّم الأرواح قرابين على مذبح السيادة الوطنية، تطفو إلى السطح بعض الأصوات التي لا تجد لنفسها دورًا سوى في مهاجمة حركات الكفاح المسلح، وكأنها هي العدو، لا من دمر البلاد وشرد أهلها.

 

المفارقة المؤلمة أن هذا الهجوم يتكثف في اللحظة التي تقدم فيها هذه الحركات أعظم التضحيات، وتخوض المواجهة الأعنف ضد ميليشيا الدعم السريع، تلك الميليشيا التي خرّبت المدن، وارتكبت المجازر، وزرعت الرعب، ودفعت بالملايين إلى النزوح، وسعت صراحةً لتقسيم البلاد وإذلال شعبها.

 

ليس من العدل، ولا من الوطنية، أن نساوي بين الضحية والجلاد، أو أن نضع كل من يحمل السلاح في سلة واحدة. فهناك فرق واضح وجوهري بين من يقاتل من أجل مشروع وطني جامع، قائم على قيم المواطنة، والعدالة، وبناء الدولة، وبين من يقاتل لحساب الأجندات الأجنبية، ويرفع بندقيته لحماية مصالحه الشخصية، ومراكمة الثروات، وترسيخ الفوضى.

 

ثمة فرق بين من وُلد من رحم الظلم، نتيجة سياسات التهميش والإقصاء الممنهج، وبين من كان بندقية مأجورة في يد الأنظمة المتعاقبة، بدءًا من حكومة الصادق المهدي، ومرورًا بنظام عمر البشير، وانتهاءً بخدمة مشاريع التدخل الإقليمي لمصلحة دويلة الإمارات ومموليها.

 

إنه لمن الظلم البيّن أن يُختزل تاريخ طويل من النضال، والتضحيات، في زلة لسان أو تصريح فردي. نعم، قد تصدر عن بعض منسوبي حركات الكفاح تصريحات غير موفقة، بل وربما غير مسؤولة أحيانًا. وهذا يستحق النقد الصريح والتقويم الحازم. ولكن من الإجحاف أن يُوظف ذلك ذريعة لتشويه كفاح شعب بأكمله، أو للنيل من قوى قدمت خيرة أبنائها في مواجهة آلة التدمير.

 

وفي هذا السياق، يثير الاستغراب حجم الاحتفاء بما قاله السيد شيبة ضرار. فرغم أن خطابه طغت عليه النبرة الساخرة والتهكمية، إلا أن تأثيره اتسع، لا لقيمة ما قاله، بل لأنه عبّر عن مشاعر كامنة لدى البعض. غير أن السؤال المشروع يبقى: من هو شيبة ضرار؟ ما هو تاريخه؟ وما الذي قدّمه في معركة الكرامة التي يخوضها الشعب اليوم؟ هل له دور نضالي؟ هل له موقف وطني مشهود؟ أم أن ما يملكه هو فقط الميكروفون، والقدرة على إلقاء التهم جزافًا؟

 

ما يقوم به شيبة ضرار في الواقع لا يعدو كونه نوعًا من الابتزاز، مدفوعًا بتغير ظرفي يتمثل في انتقال العاصمة المؤقتة إلى بورتسودان. فهل يكفي هذا الظرف ليمنحه الحق في شتم الجميع؟ وهل يُعقل أن تتحول منابر الإعلام إلى أدوات لتصفية الحسابات تحت غطاء “حرية التعبير”؟

 

لكن الأخطر من ذلك، هو تفشي ما يمكن تسميته بـ”عقلية عبد الرحمن عمسيب”، وهي عقلية قائمة على الشك المطلق، والتخوين الشامل، وتقسيم السودان نفسيًا قبل أن يُقسّم جغرافيًا. عقلية ترى في دارفور “دار شر”، وفي الحركات المسلحة مشاريع للخراب، وفي كل من يخالفها رأيًا “عدوًا متآمرًا”.

 

هذه العقلية لا تفرّق بين من يقف في الصف الوطني، ومن يقف ضده. وهي لا ترى إلا الأبيض أو الأسود، دون أي اعتبار لتعقيدات المشهد السوداني، ولا لحقيقة أن المشروع الوطني يتسع لتنوع المواقف والتجارب. وهي، في المحصلة، لا تخدم إلا أعداء الوطن، لأنها تُفكك الجبهة الداخلية، وتزرع الفتنة بين من يُفترض أن يكونوا حلفاء في خندق المقاومة.

 

ومن يزعم أن الحركات المسلحة تسير في طريق التحول إلى “دعم سريع جديد”، فليقدم الأدلة والوقائع. لا مكان في معركة بهذا الحجم للظنون والتأويلات. ولو ثبت ذلك بالفعل، لما ترددنا لحظة في مواجهته، ولأعلناها صراحة: “لا لمشروع الفوضى، مهما كان لونه أو اسمه أو شعاراته”.

 

لكن الحقائق على الأرض تقول غير ذلك. فالحركات، رغم ما يعتريها من ضعف داخلي أحيانًا أو ارتباك، تقف اليوم في خندق المواجهة، وتدفع الثمن، وتتمسك بمشروعها الوطني الذي تطورت ملامحه عبر عقود من النضال.

 

نحن اليوم في أمس الحاجة إلى أعلى درجات الوعي الوطني. لسنا بحاجة إلى مزيد من جلد الذات، أو إلى تحويل المعركة الكبرى إلى مسرح لتصفية الحسابات الصغيرة. العدو واضح، ومشروعه التخريبي مكشوف، والدم الذي يسيل كل يوم يجب أن يكون كافيًا لردع العبث.

 

فلنتوحد على هدف واحد: استعادة الدولة السودانية من براثن الفوضى والانهيار. وإن لم نفعل، وإن لم نتعلم من أخطاء الماضي، فإننا لا نعيدها فقط، بل نكررها على نحوٍ أكثر فداحة، والثمن هذه المرة كما تشير كل المؤشرات قد يكون الوطن نفسه.