حين تتحول السخرية من القوات المشتركة إلى خيانة وطنية (1)

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

السخرية من القوات المشتركة وتحميلها مسؤولية سقوط منطقة استراتيجية كـ”المثلث” تُعد تصرفًا غير وطني، بل تُظهر غيابًا في الوعي الاستراتيجي، في ظل معطيات واضحة عن حجم التدخلات الخارجية وخطورة المهددات العابرة للحدود. هذا النوع من التناول الإعلامي والشعبي يندرج تحت ما يمكن تسميته بـ”التشفي الجماهيري”، وهو سلوك نشهده عادة في ملاعب كرة القدم، لا في ساحات الصراع العسكري والسياسي، ما يشي بوجود نوايا شخصية قائمة على الكراهية المفرطة، لا على النقد البنّاء.

من المهم التذكير أن القوات المشتركة هي قوات مساندة، وليست مسؤولة مسؤولية مباشرة عن حماية الحدود الدولية للبلاد؛ إذ أن هذه المهمة تقع أساسًا على عاتق القوات المسلحة السودانية. وهذا أمر معلوم بالضرورة، ولا يمكن تجاهله أو القفز عليه في محاولة لشيطنة طرف وتبرئة طرف آخر في معركة دولية تتجاوز في تعقيداتها الحرب المحلية.

إن منطقة الصحراء مترامية الأطراف، وظلت القوات المشتركة تقدم الشهداء في سبيل قطع خطوط الإمداد القادمة من الخارج خلال شهور من الحرب. كيف يُكافَأ هذا الأداء بالتجريح والسخرية؟ وهل سقوط فرق عسكرية عديدة يدعونا للسخرية من الجيش؟ أم أن الجيش يمثل “خطًا أحمر”، بينما من يسانده ويقدم التضحيات يُترك لهؤلاء ليقولوا فيه ما يشاؤون؟ هل بمثل هذا السلوك يبيح لنا الرد بسخرية مضادة إذا حدث أي طارئ في الحرب وخسارة أي معركة وسبق وأن تحدث نفس هؤلاء الشامتين بذات السخرية عند سقوط النهود وعند سقوط الخوي وكلما تحررت منطقة يتحدثون عن أدوار لقوات أخرى كأن القوات المشتركة لم تشارك في تحرير تلك المنطقة أو المدينة

دعونا نستعرض ما جرى، وهو أمر تحدثنا عنه مرارًا قبل أن يقع الفأس في الرأس.

لقد نبّهنا منذ وقت مبكر إلى التوتر المتصاعد في المنطقة الحدودية بين السودان وليبيا ومصر، وكذلك بين السودان وليبيا وتشاد، منذ بدأت كتيبة “سبل السلام”، التابعة لمجرم الحرب الليبي خليفة بلقاسم حفتر، التوغل داخل الأراضي السودانية. بدأ الأمر بتوغل مسافة ثلاث كيلومترات داخل الحدود، ما أدى إلى اشتباك مع قوة تابعة للحركات المسلحة المساندة للجيش السوداني قرب جبل العوينات، وأسفر عن مقتل عنصرين وأسر آخرين من قوات حفتر.

 

 

في حينه، حاول الشيخ عبدالرحمن هاشم الكيلاني الزوي، آمر كتيبة سبل السلام، التقليل من شأن الحادث، واصفًا إياه بـ”سوء تفاهم” بين القوات المنتشرة على جانبي الحدود. إلا أن الحقائق على الأرض خالفت هذا التبرير. فالاشتباك أسفر عن أسر ثلاثة جنود من كتيبته أيضًا، مما أظهر أن الأمر تجاوز “سوء الفهم”، وكان تحركًا محسوبًا.

 

 

أوضحنا حينها أن كتيبة سبل السلام تقوم بتدريب عناصر من مليشيا الدعم السريع في الكفرة، بعد ترحيلهم من نيالا والجنينة، وتجمع مرتزقة أجانب لدفعهم إلى جبهات القتال في شمال دارفور. وهذا ما أكده أحد الأسرى الكولومبيين الذين دخلوا الحدود السودانية عبر ليبيا، مشيرًا إلى دور قوات حفتر في هذا المسار.

 

 

كما تحدثنا عن قاعدة الجفرة الجوية، ثاني أكبر قاعدة جوية في ليبيا، والتي تحولت إلى نقطة تجمع للحركات المسلحة المعارضة في غرب إفريقيا، ومنها:

الحركة الديمقراطية التصحيحية التشادية بقيادة بشير الخليل

جبهة التغيير والوفاق (فاكت) التشادية بقيادة د. محمد مهدي علي

والمجلس القيادي العسكري لإنقاذ الجمهورية التشادية بقيادة محمد سليمان سنوسي

واتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية الأساسية التشادية بقيادة حمدي موسى

ومن مالي: الحركة الوطنية لتحرير أزواد وأنصار الدين

ومن الكاميرون: مجلس تحرير أمبازونيا

ومن بوركينا فاسو: جماعة نصرة الإسلام والمسلمين

ومن إفريقيا الوسطى: الحركة الوطنية لأفريقيا الوسطى وتحالف سيليكا

تنظيمات مثل الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى وبوكو حرام

هذه الحركات، التي ينتمي أفرادها إلى جنسيات متعددة، يعملون كمرتزقة مدفوعي الأجر، وقد تم تجميعهم في محور الصحراء عبر كُتم، تزامنًا مع وجود قوات حفتر في الجنوب الليبي استعدادًا للتدخل في السودان، ما شكّل تهديدًا مباشرًا للقوات المشتركة في المثلث والعطرون.

 

وقد دعونا في وقت مبكر إلى ربط قوات العطرون بإمداد عسكري من الولاية الشمالية للتحرك نحو مليط ثم شمال الفاشر، لكن بدلًا من ذلك، حدث العكس.

 

 

دخلت المليشيا منطقة جبل دكين من الاتجاه الجنوبي الغربي للمثلث قادمة من ليبيا، وادعت السيطرة على جبل كسو الواقع في الكفرة. وبفضل الإمداد والدعم العسكري والإعلامي من كتيبة سبل السلام، تمكنت مليشيا الدعم السريع من السيطرة على المثلث، في ظل تقاعس واضح عن التصعيد الدفاعي المناسب.

 

 

وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية طائرات شحن IL-76TD تغادر من الإمارات إلى مطار الكفرة، حيث شوهدت خمس طائرات شحن في مايو وحده، ما يؤكد حجم الدعم اللوجستي الكبير الذي تتلقاه هذه القوى.

 

 

كما شهدت منطقة العوينات اشتباكات مباشرة بين القوات المشتركة وكتيبة سبل السلام، سقط خلالها عدد من القتلى والجرحى من الطرفين، وأُسر عدد من الجنود. وفي تطور لافت، وصل اللواء صدام حفتر إلى الكفرة وكان في استقباله عبدالرحمن هاشم، ما يعكس أهمية الكتيبة بالنسبة للقيادة الليبية.

 

 

ومع كل هذا، لم نجد تحركًا استباقيًا كافيًا من القوات الرسمية ولا استجابة فعلية لما تم التحذير منه مرارًا. الآن، بعد سقوط منطقة المثلث، ظهرت حملات التشكيك والتهكم والشماتة في وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنّ ما حدث مجرد خسارة لفريق كرة قدم، وليس تقدمًا عسكريًا يعرض أمن البلاد للخطر.

 

 

الخلاف السياسي مع قيادات مدنية أو عسكرية ك د. جبريل إبراهيم أو المارشال مني أركو مناوي لا يبرر إطلاق الهجوم على القوات المشتركة التي تضم شبابًا يقاتلون ويموتون في الميدان. انتقدهم في عملهم التنفيذي إن أردت، لكن أن يتحول الغضب السياسي إلى حقد على من يدافعون عن حدود البلاد، فهذا أمر غير مقبول، ويستدعي موقفًا حازمًا من أجهزة الدولة تجاه دعاة الفتنة.

 

 

نُجدّد التحذير من الوضع في الفاشر، التي يقترب منها الخطر يومًا بعد يوم. لكن يبدو أن البعض ينتظر سقوطها ليُمارس هوايته في السخرية. فبالنسبة لهؤلاء، المسألة ليست وطنًا يُحتل، بل مجرد تصفية حسابات سياسية.