ضل الحراز : علي منصور حسب الله
في زمن الحرب، حين تُراق الدماء وتُزهق الأرواح، لا مكان للشماتة بين الوطنيين، ولا مجال للتشفي في من يقفون في خط النار. لكننا، للأسف، نعيش لحظة اختلال أخلاقي وقيمي مفزعة، حين يخرج بعض من يدّعون الوطنية ساخرين من القوات المشتركة، مقللين من حجم التضحيات التي تقدمها، بل ومتهمين لها بالتقصير، وكأنّ ما جرى في “المثلث” مجرد نكسة عابرة أو مباراة انتهت بخسارة فريق على المستطيل الأخضر.
الأكثر إيلامًا أن هؤلاء رغم هذا السلوك المشين يُمنحون التقدير من بعض مسؤولي الدولة، الذين أوكل إليهم أمر البلاد لا لشيء سوى لحسن قيادتها وإصلاح حالها، لا لمكافأة أصحاب الأصوات العالية، وإن كانت خالية من الوفاء.
قبل الخوض في تفاصيل ما جرى في “المثلث”، لا بد من التذكير بحقيقة قانونية وعسكرية راسخة: حماية الحدود هي مسؤولية الجيش النظامي، لا القوات المساندة له. فالقوات المشتركة تؤدي دورًا تكميليًا، وُجدت لتسدّ فراغات تركتها المؤسسة العسكرية في لحظات ضعف أو غياب أو تراجع. ومع ذلك، لم تتخلّ هذه القوات عن مواقعها، ولم تتوانَ عن القتال، بل صمدت، وقدّمت الشهداء، وخاضت معارك ضارية في أكثر جبهات القتال قسوة، حيث لا ظل ولا ماء ولا غطاء.
إن السخرية من انسحاب القوات المشتركة من “المثلث”، ومحاولة تحميلها كامل المسؤولية، لا تندرج تحت خانة “الرأي المخالف”، بل تعكس عقلية أقرب إلى الخيانة. هل أصبحت الخلافات السياسية مبررًا للشماتة في لحظة يسقط فيها الشهداء؟ وهل تراجعت أخلاقيات بعض المثقفين والصحفيين والنشطاء إلى هذا الدرك؟
في وقتٍ تنتظر فيه أسر الشهداء جثامين أبنائهم الذين ارتقوا دفاعًا عن الأرض، يخرج البعض على وسائل التواصل الاجتماعي ليحتفي بسقوط موقع عسكري وكأننا في دوري كرة قدم سياسي، لا في معركة بقاء.
كتبنا، وحذّرنا، ونبّهنا مما يحدث في الصحراء الكبرى، وفي شمال دارفور، وفي حدود السودان الليبية، لكن تلك التحذيرات أُهملت لأنها لم تصدر من قبل أبناء الذوات والأقلام المقرّبة من كبار رجال الدولة. واليوم، أبناء الذوات يقومون بحملات تشويه ممنهجة. جميعهم لا يرون في تقدم مليشيا الدعم السريع خطرًا، لعلهم يعتقدون أن هذا التقدم يعني فناء القوات المشتركة، لذلك وجدوا فرصتهم لتصفية الحسابات السياسية مع مجموعات معينة، ويندفعون في ذلك باستخدام “سواقط المجتمع”، ممن يحملون رتبًا وهمية (فريق)، ويملأون فضاءات التواصل بـ”لايفات” التشهير والكذب.
الوطنية، تلك الكلمة التي تتحرك لها القلوب وتنبض بها الأرواح، أصبحت عند البعض مجرد شعار أجوف. يلوكونها بلا فهم، ويستخدمونها قناعًا لإخفاء أطماعهم، أو سلاحًا لتصفية من يخالفهم. كلما ضاقت بهم الطرق، لجأوا إلى مصطلح “الوطنية”، يوزعونه كما يشاؤون، ويقيسون به الآخر كيلًا بمكيالين.
لقد تحوّلت الوطنية عند البعض إلى مذبح يُقدَّم عليه خصومهم، وأداة يصنعون بها تماثيل زائفة لمن ينافقونهم. يرفعون راية الوطن وهم لا يهمهم إلا أنفسهم، يتضخم شعورهم بذواتهم إلى حد أنهم يعتقدون أن الوطن لا يكون إلا بهم، ولا ينهض إلا برضاهم.
هكذا يهللون ويتباكون أمام الكاميرات، بينما في الخفاء يساومون على الوطن بثمن بخس. لا يعرفون من الوطنية إلا قدرتها على إيصالهم إلى المناصب، ولا يرون في الجيش والمقاتلين إلا وقودًا لمعاركهم الإعلامية.
في الوقت الذي يُستشهد فيه رجال في العطرون من شدة العطش، وتُطارد فيه الأسر في الخلاء، وتُعذَّب فيه الأرواح في سجون المليشيات، كان بعض “النشطاء” يمارسون سادية السخرية من القوات المشتركة.
القوات التي قاتلت حين تراجع الآخرون، وواجهت الموت حين ترددت وحدات بكامل عتادها، لا تستحق الشماتة. هي ليست فوق النقد، نعم، لكنها لم تخن، ولم تهرب، ولم تتواطأ كما فعل آخرون، بل قاتلت، وصبرت، وسدّت الفراغات حين عزّ النصير.
ما حدث في “المثلث” ليس نهاية الحرب، بل إحدى محطاتها. أما ما فعله البعض من شماتة، فليس مجرد اختلاف سياسي، بل خيانة موثقة بحروف عار، ستبقى في ذاكرة الوطن طويلًا، وستبكيها الأمهات اللواتي لم يجدن حتى جثامين أولادهن لتشييعها.
فلتنتقد من تشاء، ولتعارض من تريد، لكن حين يُسفك دمٌ من أجل أن تبقى حرًا – لا تسخر. لا تضحك على من مات ليحيا الوطن، ولا تضع خلافاتك الشخصية فوق دماء الشهداء. فالوطن لا يُبنى بـ”اللايفات”، بل بالتضحية.