حين تتحول السخرية من القوات المشتركة إلى خيانة وطنية (3)

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

 

بينما تتواصل محاولات التسلل إلى منطقة الراهب، وجبل العطرون، وجبل تقرو، والنخيل، وجبل كسو، وكرب التوم، والخناق، وجميع المناطق المحيطة بجبل العوينات، تمتد أعين الطامعين أيضًا إلى منطقة المثلث الحدودية، الواقعة في عمق الصحراء غرب مدينة دنقلا، على بُعد حوالي (700) كيلومتر، وجنوب الحدود المصرية بنحو (40) كيلومتراً، وشرق الحدود الليبية بما يقارب (600) كيلومتر.

 

 

منطقة بهذه المسافة والوعورة، وبهذا الانقطاع الجغرافي، ظلت لعقود طويلة خارج نطاق سيطرة الدولة، لا وجود فيها لقوات نظامية، ولا لأي من أذرع الحكومة، فصارت ملاذًا للعصابات وقطاع الطرق ومهربي البشر والبضائع، مستفيدين من تضاريسها الجبلية المعقدة التي تحتضن الكهوف والمخابئ الطبيعية.

 

لكن، في منعطف مفاجئ ومفصلي، تحولت هذه الصحراء المنسية إلى مركز جذب اقتصادي عقب اكتشاف الذهب في المنطقة، خصوصًا في قلب المثلث. فبدأ المنقبون بالتوافد تباعًا، وتحولت الرمال الجرداء إلى حياة نابضة بالرجال والعمل والمناجم. شيئًا فشيئًا، ظهرت المتاجر، وتأسست طواحين الذهب، وبدأت البضائع تتدفق من الكُفرة الليبية الوقود، الدقيق، السكر، وغيرها لتشكل سوقًا غير رسمي لكنه مزدهر، يغذي دارفور وكردفان والولاية الشمالية.

 

ثم جاءت الحرب في 15 أبريل 2023، لتزيد من أهمية المثلث، بعدما تحول إلى ممر إنساني للآلاف من النازحين السودانيين الهاربين من جحيم القتال نحو ليبيا عبر الخناق. وتولّت أطراف ليبية ترحيل السودانيين من المثلث إلى الكفرة، بينما استمرت الشاحنات الليبية في ضخ البضائع إلى المنطقة، ما جعل منها فعليًا ميناءً بريًا جافًا في قلب الصحراء.

 

ونظرًا لكون المثلث بعيدًا، قاسيًا، خاليًا من الحياة البشرية المنظمة، ظل لزمن طويل بلا وجود فعلي للدولة. وحتى فترة قريبة، كان الأهالي يعتمدون على الجوديات لحل النزاعات وحفظ الأمن المجتمعي. إلى أن جاء الشهيد الضابط الإداري إسماعيل بلال، بمبادرته الوطنية لفتح وحدة إدارية رسمية تُنظّم حياة المعدنين، وقد تحقق ذلك في 15 يناير 2021، على يد والي الولاية الشمالية البروفيسور آمال محمد عزالدين، وتمت تسمية المحلية باسم الشهيد عرفانًا بفضله.

وتزامنًا مع افتتاح المحلية، أُنشئ مقر صغير للاستخبارات العسكرية بقيادة ضابط برتبة نقيب، وآخر للقوات المشتركة بقيادة مقدم، وهو ما يعكس أن الدولة لم تدفع بقوات كبيرة إلى هناك، بل كوحدات رمزية لضبط الأمن وتقديم الحماية للمعدنين. وقد أدت هذه القوات مهمتها بكفاءة نادرة، حيث تم بسط السيطرة على السوق وتأمين الطرق، بعد أن كانت بعض قبائل دول الجوار تمارس النهب المسلح بلا رادع.

ومن منطلق إنساني أصيل، سارعت محلية المثلث إلى تأسيس مركز إيواء كبير للاجئين الفارين من الحرب، وقدمت فيه الغذاء، والدواء، والإيواء، مجانًا، بموارد محلية وبمشاركة فاعلة من القوات المشتركة والجيش والتجار وبعض الخيرين. وللتوضيح، فإن المثلث لا يحوي أحياء سكنية، بل فقط مساكن مؤقتة للرجال العاملين في التعدين، كما عبّر أحدهم ساخرًا: “نحن في المثلث جمال بلا نياق.”

وفي سياق ضبط السلوك العام، قررت السلطات المحلية منع خروج النساء من مركز الإيواء لأي غرض كان، حتى زيارة السوق، وتمت تهيئة خدمات طبية وغذائية داخله، بإشراف مباشر من إدارة المحلية. وقد تميز الضابط الإداري شوقي صلاح خليفة، المدير التنفيذي للمحلية، بحسن إدارته، إلى جانب الدكتور برهان أحمد الذي يعمل دون كلل، ومدير المركز عاطف خضر صالح، الذي شوهد مرارًا وهو يشارك اللاجئات إعداد الطعام في رمضان، يعوس العصيدة بيديه.

ولما بدأت ميليشيا الدعم السريع في محاولة الاستفادة من البضائع القادمة من ليبيا عبر المثلث، تدخلت القوات المشتركة بحزم لإيقاف هذا التسلل اللوجستي، فأثبتت وطنيتها مجددًا. لكن، ومع ذلك، كانت المفاجأة أن تُقابل هذه القوات بحملة سخرية وتجريح، بدلاً من الإشادة بدورها. بعض الأصوات التي لا تخفى خلفياتها راحت تُشكك في تبعية المنطقة، وتتهم مني أركو مناوي بمحاولة ضم المثلث إلى دارفور، وكأن الأمر قابلاً للمزايدة.

وما إن انسحبت القوات المشتركة، حتى بدأت سكاكين السخرية تنهشها، وسط تجاهل مريب من القيادة العليا، فتصاعد الاحتقان داخل صفوف القوات، مما أعطى المتمردين أمثال سليمان صندل والطاهر حجر الذريعة ليزعموا أن انحيازهم للدعم السريع كان صحيحاً نسبة للأصوات العنصرية والحق أن هذه السخرية، في هذا التوقيت الحرج، ليست فقط قلة إنصاف، بل خيانة وطنية صريحة، يستفيد منها العدو وحده.

قد نفهم تلك السخرية حين تأتي من أشخاص كـ حياة عبد الملك أو عبد الرحمن عمسيب، فهؤلاء أصحاب أجندات انفصالية معروفة، لكن الكارثة أن تأتي من جهات تنال الدعم والتكريم من الدولة ذاتها، من قِبل أعلى مستويات السلطة، بينما تزرع الفتنة وسط الجيوش الوطنية التي تقاتل نيابة عن الوطن كله.

فإن كنا منصفين، وجب أن نطرح الأسئلة التالية بجرأة وصدق:

هل تُصرف استحقاقات القوات المستنفرة كاملة، وهم يقاتلون في الخنادق ؟

لماذا ظل الجيش، منذ الثمانينات، يعتمد على المليشيات، بدءًا من تسليح المراحيل على يد اللواء فضل الله برمة ناصر؟

من هو محمد عبد الله الكلس ومن كانوا معه؟ وما دورهم في تقويض القوات المسلحة؟

لماذا وقفت بعض الجهات موقفًا مؤيدًا للدعم السريع قبل الحرب ؟

كيف انهارت فرق عسكرية كاملة في بداية القتال؟

من قتل الشهيد اللواء ياسر فضل الله؟ ولماذا صمت الجميع؟

أين التقرير الرسمي حول سقوط ولاية الجزيرة وحاضرتها ود مدني؟

ما هو دور الشرطة في انهيار الوضع الأمني بنيالا مما أدى إلى سقوطها ؟

إنها أسئلة موجعة، لكنها ضرورية، لأنها تقود إلى الحقيقة التي يتجنبها البعض عمدًا، حماية لمصالح شخصية ضيقة.

 

وختامًا، نقول:

 

المصالح الفردية التي تدفع البعض لزرع الفتنة وسط القوات الوطنية، لا تساوي شيئًا أمام المصلحة الوطنية العليا. وإذا ما وصلت طلائع المليشيات إلى منطقة الخناق، وقتها فقط، يكون “الماء قد خنق القنطور”.

فهل نستفيق قبل أن تغرق البلاد؟