السودان ليس ضيعةً خاصة… فاحترموا اتفاق جوبا

ضل الحراز: علي منصور حسب الله

 

 

 

كلما اقتربت لحظة تشكيل الحكومة الجديدة، تعالت الأصوات الرافضة لمشاركة قادة الحركات المسلحة في السلطة، وكأن اتفاق جوبا للسلام كان مجرد وثيقة عبور مؤقت، أو “علبة ساردين” لها تاريخ صلاحية وانتهى! وكأن مشاركة قادة الكفاح المسلح في إدارة الدولة تمثل جريمة سياسية، بينما يُغضّ الطرف تمامًا عن بقية بنود الاتفاق التي ظلت طي النسيان، مركونة على أرفف الإهمال.

من يثيرون الزوابع حول بند المشاركة، هل سألوا أنفسهم لماذا لم تُنفّذ الترتيبات الأمنية؟ لماذا لم تُحل قضايا النازحين؟ وأين ذهبت برامج التنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي نص عليها الاتفاق؟ هذه البنود لم تتعثر بسبب الحركات المسلحة، بل بسبب تلكؤ السلطة الانتقالية وتسييس الاتفاق، واستخدامه كأداة انتقائية تخدم أجندات ضيقة. فهل نفّذ هؤلاء كامل الاتفاق ثم فوجئوا بتقصير؟ أم أنهم ببساطة اختاروا ما يروق لهم، وتجاهلوا ما يتطلب التزامًا حقيقيًا بإرادة السلام؟

من يندبون حظ السودان لأن الدكتور جبريل إبراهيم أو الأستاذ أبو نمو أو الأستاذ محمد آدم بخيت لا يزالون ضمن المشهد السياسي، عليهم أن يسألوا أنفسهم أولًا: بأي آلية رُشّح كامل إدريس لرئاسة الوزراء؟ هل جاءت عبر انتخابات حرة وشفافة؟ هل اختار الشعب أعضاء مجلس السيادة؟ أم أن الأمر ما زال يُدار في الغرف المغلقة، بصفقات نخب لا علاقة لها بالصناديق ولا بالتفويض الشعبي؟

وأين كانت هذه الحمية للديمقراطية وحكومة الكفاءات حين كانت المحاصصات تُوزّع خلف الكواليس بلا معيار ولا تفويض؟ ولماذا لا نسمع من هؤلاء انتقادًا صريحًا لأولئك الذين فشلوا في تقديم أي إنجاز حقيقي طوال فترة الحرب؟ ماذا قدم الهندي عز الدين للوطنية والسلام؟ وهل كان عثمان ميرغني نصيرًا حقيقيًا للقوات المسلحة؟ الحقيقة أن كثيرًا من هؤلاء ظلوا منذ عهد “قحت” يكتبون ضد الحركات المسلحة لا لسبب، سوى أنهم لا يرون في مكونات الهامش شركاء حقيقيين في الوطن.

كتب عثمان ميرغني ذات يوم أن على الحركات الانتظار حتى الانتخابات، وكأن بقية اللاعبين السياسيين قد جاؤوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع! فهل المشاركة السياسية حلال على البعض وحرام على الآخرين؟

المطالبة بإقصاء الحركات المسلحة من الوزارات “المهمة” لا تنبع من حرص على الكفاءة، بل من عقلية إقصاء متجذرة ترى السودان كضَيعةٍ مملوكة، أو “حاكورة” تتحكم فيها مجموعة بعينها. عقلية تمارس الوصاية وتُقرر من يُشارك ومن يُقصى، ومن يُسمع صوته ومن يُكتم.

إن ما يطفو من عنصرية سياسية في الخطاب العام لا يمكن تجاهله. فالمشكلة ليست مع الحرب، بل مع من حملوا السلاح قادمين من دارفور، أو جبال النوبة، أو النيل الأزرق. هنا مكمن الخطر: حين تتحول الهوية الوطنية إلى رخصة حصرية تُمنح بقرار غير معلن من نخب المركز. هذه الحركات تنازلت عن كثير من المواقف، تجاوزت المآسي والدماء والمرارات، وأعلنت أن “الحصة وطن”، فلماذا يُراد استهدافها بعد كل ذلك؟

اتفاق جوبا لم يكن منحة، بل استحقاق تاريخي وأخلاقي دفع ثمنه أبناء الهامش بالدم والدموع، ووقع من أجل إيقاف نزاع دام لعقود. ومن يطالب اليوم بإلغائه أو تجاوزه، فعليه أن يطرح بديلًا عادلًا وشاملًا، لا أن يلوذ بالانتقاء والمزاجية. فإن كانت لديكم الجرأة، فهاتوا انتخابات نزيهة ودعوا الشعب يختار، لا أن تفرضوا عليه وصايتكم من المنابر المغلقة.

إن السودان لن يُبنى على عقلية الإقصاء، ولن يتقدم ما لم نُقرّ أن هذا الوطن ملكٌ لكل السودانيين دون تمييز أو تفاضل. من يتوهم أنه قادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ليختزل السلطة والثروة في مركز واحد أو جهة واحدة، فإنه يكرر ذات الأخطاء التي أدت لانفصال الجنوب. فالعقلية ذاتها، التي استهانت بالعهود، وتذاكت على الشركاء، وأمعنت في التمييز والتهميش، هي التي قادت البلاد إلى التشظي والانقسام.

لكن السودان اليوم، بعد كل هذه المحن، لن ينقسم مجددًا. لن يُفرّط السودانيون في وطنهم، مهما ارتفعت أصوات العنصرية والتعالي الطبقي والسياسي. بل سيتوحدون أكثر كلما أدركوا أن لا أحد يملك الحق في احتكار البلاد أو تمثيلها باسم زائف للشعب أو الكفاءة.

فإما أن نُنفّذ ما تم التوقيع عليه من اتفاقات، ونبني دولة القانون والمؤسسات، أو نعترف بأننا نعيد إنتاج الأنظمة الفاسدة نفسها التي قادتنا إلى الدمار والحروب والدماء.

التغيير الحقيقي لا يكون بتبديل الوجوه، بل بتغيير النهج. ولا طريق للتغيير دون احترام التزامات الدولة، وتنفيذ الاتفاقات كاملةً دون انتقائية. الدولة التي لا تلتزم بما توقع عليه، لا تستحق ثقة شعبها، ولا احترام المجتمع الدولي.